كتاب الموقعنوافذ

النقصان!

الحياة أشبه بالحياة
لهب ينساه العابر،
ورماد تذره الريح
وإنسان كان قد…عاش”.
————————————————————

النقصان
لكي نتذكّر ممدوح عدوان جيداً علينا الاعتراف بأن المبالغات جميعها مذنبة ذنباً لا يغتفر .
أول هذه المبالغات :أن الصوت العالي لممدوح كان، في حقيقة الأمر، أنيناً متذمراُ من ضعف الأداء الفعلي للحياة، التي هي دائماً للأسف، “إنجاز غير مكتمل”.
وثاني هذه المبالغات: هي وجه الشبه بين ممدوح والموت. كلاهما عنيد ومحارب ومصرّ على إنزال الهزيمة بالخصم.
وثالث هذه المبالغات: أن “ممدوح” مات وهو غير مهتم بأي شيء سوى الكتابة… فيما هو بالغ الإهتمام بالحياة إنه حي حتى أطراف غايته، حيث يقيم الآن، برقاً مفلفلاً حاراً… تحت التراب.
ولكن…
أهم هذه المبالغات جميعاً هو ممدوح نفسه.
لقد أسرف، كمحارب شجاع ودائم الهجوم، في تربية دود الحرير من أجل فراشات يغرسونها، لاحقاً، بدبّوس في لوحة وسائل إيضاح للألوان!
نحن، سكان هذه البلاد، يؤلمنا وجود قلاع كثيرة ولكنها خالية من المتاريس الضرورية لحماية الأوراق والأقلام وبيئة الهواء النقي…
جيلنا كلّه… لا يستطيع كتابة سطر واحد، تعريفاً جامعاً مانعاً لكلمة واحدة، هي … الحرية. فأحدنا يقضي العمر في تعلّم ” النطق” … بينما النظام العربي والاستبداد، خلال أقل من ساعة واحدة، في أضيق من مساحة قبر، يعلمنا…”الصمت” !!
تلك قامة حزينة مليئة بغياب الرحمة: طاولة الكاتب ليلاً، حتى لو كان ممدوح من ورائها يعلن رسمياً، في ثمانين كتاباً، أنه:
يثرثر لإيقاظ العدالة،
ويصرخ لتنبيه العبيد،
ويهدّد بإقامة الموتى ليحاكموا الأحياء… واضعاً على الطرف الأيسر للطاولة تمثال “دون كيشوت” النحيل الذاهب لتقويض… أبنية المخابرات. وعلى الطرف الايمن كتاباً لكازنتزاكس يحدق بالموت .
ممدوح أحد مؤرخي لحظة قبيحة في حياتنا. مات قبل أن “يترفع ” لواء اسكندرون إلى انطاكية رتبة أخرى.
مات قبل أن يثأر أحد لبطل جولاني قتيل في روايته الأولى ” الأبتر”
مات قبل أن يسجل يهودي آخر (بعد كارل ماركس) اعترافاً بحق الفلسطيني بـ22 بالمائة من أرض فلسطين.
مات قبل أن يضع، لمرة واحدة في العمر، ورقة تصويت في صندوق انتخابات.
ممدوح… أحد عصاة الهامش.
المذنب الجمالي في واقع جنائي.
المرتكب أغنية وداع أخيرة للسعادة في الحياة على هذه الأرض.
آن له ولنا أن نشعر بالغثيان قليلاً من الاعتياد على كلمتي الخلود: الأزل والأبد!
مات ممدوح… قبل أن ينتصر أحد من المحيط إلى الخليج إلا برأس مقطوع !
ومع ذلك،
فإن صناعة الأحلام وهي ـ لا البغاء ـ أقدم مهنة في التاريخ…
لا يمكن لأية قوة أن تدفعها إلى الانقراض، ما دام الكتاب والشعراء والفنانون، على هذا القدر من التورّط في شغف “مهنة الهواة” التي هي… الكتابة.
لقد كان ممدوح ريفياً محترفاً متورطاً  في صناعة الأحلام، في مدينة محترفة في صناعة النسيان.
ولذا كان يعض على ورقة زيتون لاعتصار المرارة التي  تذكره بأسلاف يرقدون ـ منذ مئات السنين ـ تحت أشجار الزيتون!

ثمة ميثاق شرف الكتابة…
حتى لو لم يكن موجوداً في أي مكان، وغير ملزم لأي كان… فإن توقيع ممدوح عدوان على ما كتبه… كان حراً وملزماً.
ممدوح عدوان … أنقص عدد الشرفاء واحداً.
مات شريفاً في زمن عربي لا يعرف شيئاً متقناً واحداً غير… النقصان !
____________________________________

نص كلمتي في تأبين الشاعر ممدوح عدوان، في دار الاوبرا -دمشق قبل ثمان سنوات.
توفي في 19/12/2005

 

21.12.2013

بوابة الشرق الاوسط الجديدة 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى