كتاب الموقعنوافذ

تنظير التنظير

تنظير التنظير

“إذا كانت المطرقة هي الأداة الوحيدة معك…فستعامل كل الأشياء على أنها… مسامير!”

تنويه :

عشنا في سورية تجربة قصيرة اسمها “ربيع دمشق” . وكانت تجربة مبشرة بحراك ثقافي اجتماعي وسياسي. لكن انتهى الربيع بسرعة؟
أظن أن الحماس والأخطاء الآتية من إعاقة مجتمع لفترة طويلة… كانت من بين الأسباب في إجهاض التجربة … طبعاً لا ننسى أن تياراً قوياً في السلطة كان ينظر بعين الارتياب الأمني المطلق لهذا الحراك.
هنا كتابة في تلك الأيام من العام 2005 .
مما ارتكبه المثقفون العب من أغلاط هو التطوع أو التخصص في إنتاج : “المانيفستو” .
في مرحلة ما، كان ينبغي العمل بالترويج للسراويل الملونة، على طريق الحرير… بدلاً من انتظار مجيء الدولة الحديثة ليكتبوا لها ما يمكن أن يكون مديحاً لشكل الاستبداد، حين كان التنظير ضرورياً للحزب الواحد، الشمولي واليقيني، قائد قاطرة التقدم والتاريخ، أو إيضاح الهدف من اشتراكية تعميم الفقر بتأميم الثورة. أو مصادرة الثروة تمهيداً لفساد الجيوب البيروقراطية تسللآً بوساطة الضباط والتجار وصغار السادة .
كان على الثقف أن ينصب مرصداً لحركات التحرر الوطني، كفصائل عالمية تساهم في حفر قبور الامبريالية، بعد أن تنجز ديمقراطية البنادق… ( وعرفنا أنهم لاحقاً اهتموا بتصنيع الحروب الأهلية). كل أنواع المانيفستو حسن النوايا، شديد المعرفة، قوي الإرادة . ولكن ما كان يجدر بها أن تقود إلى الرضى ” بمستبد عادل ” أو ” الجنرال الفلاح” كخيار إجباري.

المثقف القومي… لم ينتج تحالفاً خلاّقاً مع السياسي القومي.

المثقف القومي… لم ينتج تحالفاً خلاّقاً مع السياسي القومي. إذ سرعان ما تنازل الأب المعرفي للقائد الميداني، ثم اضطر إلى مبارزته لاحقاً بعد أن أصبح ديكتاتوراً من الطراز التنموي الاشتراكي.
والمثقف اليساري… تماهى مع فكرة المعارضة في الصفوف الخلفية للنضال السري حيث يتم الإعداد للتغيير بأدوات المعرفة المتفوقة.
وبالحشد التعبوي لفئات المتذمرين من البشر، في مأزقهم مع الحياة (جماعة الجسد الهزيل).
أما المثقف الديني، فلديه توقف متكرر عند محطة الماضي. ليس بوصفه سجلاً لأفعال، بل لكونه ذاكرة انفعالية لمجد لم يعد موجوداً ، لفرط النقص في ثاني أوكسجين الخلافة والإيمان.
الآن، بحثاً عن دور، يعيد الثلاثة، آنفي الذكر، النظر في مستودع المعرفة، بعد اتحاد خبرة الهزيمة وفردانية الحقيقة، فيذهبون إلى الانتقاء والتطعيم والتلقيح. ومرة اخرى يحار الثقافي في فك طلسم الالتباس الجديد القديم مع السياسي. الالتباس متعدد الجنسيات، إذا صح التعبير ، فالثقافي يحاول المستحيل يحاور الممكن. والثقافي حاضن مفاهيم وقيم  وناطق باسم الضمير، بينما السياسي يريد التكاثر المعكوس: التجارة بدلاً من الثقافة، الخارج بدلاُ من الداخل، الإقرار بدل الحوار، وشرعية الأمر الواقع عوضاً عن التشريعات.
السياسي وخلال سنوات التحرر والاستقلال، كان يريد المثقف “لفاية” برتبة لغوية وراتب لينظف له أسنانه من بقايا لحم البشر، ويرتب ظهوره المضيء على الشاشة وفي الشارع وأمام جمهور البلاغة والبلاهة. وعندما لا يستطيع السياسي  الحصول على النخبة الموهوبة بين المثقفين كان يلجأ إلى التصنيع الذي يفشل دائماً. فقد يكون بوسع أية سلطة تصنيع وفبركة أي شيء إلا الشاعر والفنان والكاتب والموسيقي، وأيضاً… الضمير.
السوريون تعبوا، بمعنى الإنهاك المكابر، من إصدار الصوت تلو النداء والبيان تلو النقد، لإيضاح المطلب البسيط وهو حرية الكتابة وحرية القول والرأي والنقد. فخلال أكثر من أربعين عاماً عملت المؤسسات الثقافية، المدمجة في اتحادات غير نقابية، على خلق وتثبيت معيارية نمطية في التفكير والكتابة غايتها “السلطة” فيما شعارها “الوطن”. وإبان الهجمات والأزمات تفكر السلطة في اللجوء إلى المجتمع. فينفتح “بازار” المطالب و”هايدبارك” الآراء. ويسيل الحبر في الجرائد اللبنانية ـ دائماً ـ في مديح الظل العالي للديمقراطية بديلاً للاستبداد ولحكم الشعب بديلاً للحزب. ودائماً يظهر في التلفزيون وفي الأنترنت وجوه وارثه لنظرية الأمس التي سادت ثم…بادت. فمن كان مع الحزب الطليعي ـ أي الحزب الواحد ـ مالك الحقيقة والحزن معاً…انتقل إلى العدالة الاجتماعية وتوسيعات المشاركة ثم وصل إلى الديمقراطية. الديمقراطية التي قال عنه تشرشل ذات يوم: ” أسوأ الأنظمة جميعاً باسثناء الأخرى كلها”. الديمقراطية لا يمكن شراؤها من الصيدلية. كما لا يمكن كتابة وصفها بجنزير الدبابة التي حطمت بلداً كالعراق ولم تحدث له معجزة الديمقراطية.

السوريون متعطشون، كصحراء استبداد القيظ
والسوريون متعطشون، كصحراء استبداد القيظ ، ليس إلى الديمقراطية بوصفها نظام حكم المؤسسات المنتخبة دورياً مع  تداول السلطة تحت سقف الدستور الدائم، بل إلى…الحرية. إن ذلك معناه الأول الحرية في التعبير عن الرأي. حرية الفرد وخصوصيته كمواطن وإنسان. وحرية العمل والتنقل والسفر و… والشتيمة أيضاً بعد التأكد من (تسعيرتها) الثابتة في قانون جزائي يطبق على الجميع.
إلا أن المثقف لا يترك الأمر بهذا الشكل، الأبسط من التدرج في المطلب، بل يريد ” بيض السلة” كلها مرفوقاً بتعليمات صنع العجة. الأمر الذي يجعلنا نتبارى في التنظير للكيفية التي يريد السوريون أن يناموا عليها، ونوع الوسادة التي تجنبهم صداع التغيير.
في هذا النوع من المباريات يتبلبل المواطنون. وقد ينقسمون إلى فريقين أحدهم يحتار أين هي الحقيقة. والثاني يحتار: الحقيقة أين؟ ذلك لأن زيادة الأفكار ـ سابقاً ـ لم تنجب سوى الاستبداد، ولم تستورد ما تركه الآخرون بعد تجارب مريرة. فما هو الضمان الآن أن تكون معركة الديمقراطية ونظريتها وكل مزاياها المُكال لها المديح، هي الخطوة الأولى نحو المسيرة في نعشها؟ ما الضمان ألا يكون صندوق الاقتراع قد مُلىء سلفاً بالعمائم واللحى ومنع المشروبات الكحولية والسير على شاطىء البحر بمايوه طبيعي وفوق الركبة وغير شرعي؟
دعونا أولاً ـ أيها الذين نظرتم للحزب الواحد ، وللحزب الطليعي، وللطليعة الثورية ، ولديكتاتورية البروليتاريا وللاشتراكية في بلد واحد ، ولحركة التحرر الوطني كحلقة وصل بين الاستقلال والتنمية والسعادة ـ دعونا نعيد تأهيل إعاقاتنا المزمنة بالتدرب على الكلام، ثم الصراحة ثم الاقتحام السؤول. دعونا نستغل المناطق المحررة في داخلنا لتزيد رقعتها يوماً بعد يوم، فليس بوسع “ممحاة الفكرة” إزالة أربعين عاماً من التشوه، الذي أدى، فيما أدى إليه، إلى إبراز تيار سلفي ديني متعصب ولديه مرجعيات مقدسة غير قابلة للنقاش. ولديه مزاعم الدواء لكل داء ( دنيا وآخرة) .
صحيح جداً القول الصيني:

” إن الحكومة المستبدة شر من الوحوش المفترسة”. ولكن الصحيح أيضاً أن إزالة الاستبداد لا يتم الانقلاب عليه بكبسة…فكرة.
إن محنة المثقف هي عدم القدرة على اختراق القاعدة الصلبة لرأي عام غير موجود، ومن المستحيل إيجاده وتكوينه وتجهيز تأييده بالإغراء المباشر، الإنشائي والواعد. إنه يحتاج إلى ذلك النوع من التضرر الفادح في أعالي مصالحه العظمى كي يندفع وراء “منظومة ” من الأفكار، وليس وراء” ملغومة” من الشعارات .
الديمقراطية، شفوياً، جاذبة سكرية لجوع الحرية. ولكنها في الواقع تحتاج إلى “مدنية” عليا، وإلى اقتصاد غير قروي، وإلى بيئة نظيفة من الحرام المطلق والحلال المطلق على أساس النص الجامع المانع . وإلى ثبات موقف الاعتراف بالآخر المختلف .
المثقف قدره التورط في الخيال، ومعاكسة الواقع، والحلم بما يبدو أنه غير قابل للتحقق. ألا أنه يحتاج في بلد مثل سوريا إلى كثير من حسابات الهندسة المعمارية حيث لن تكون الأخطاء في الهيكل سوى التأسيس لإنهيار المبنى.
المثقف ” أبو السياسي” أو “جده الأول” من أيام أفلاطون وما يزال كذلك حتى أيامنا هذه وعصرنا هذا. غير أن السياسي أصبح، كما كان، كثير الحيلة في العصر الحديث أيضاً. فيما بقي المثقف يشتغل بعقل المخترع الذي صنع الديناميت والسموم الشافية ، ليموت… فيها مسموماً أو ملغوماً.
انظر أرشيف ضحايا فكرتهم.
انظر إلى عدد الضحايا عندما نفذ الفكرة على الأرض..السياسي !

بوابة الشرق الاوسط الجديدة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى