كتاب الموقعنوافذ

شارع المتنبي وشاعره !

…ويكذب. ما أذللته بهجائه
لقد كان من قبل الهجاء… ذليلاً (المتنبي)

عالم عربي مليء بالمتفجرات والمفخخات، لا ينجو منها أي شيء.
ومن يرى مسرح الانهيار والحطام والأشلاء لا يمكنه أن ينسى ضرورة البحث عن أفضل طرقات السلام في هذا العالم.
ولأنني رأيت عدة مسارح للتفجيرات العبثية هذه… فقد اعتبرت المحظوظين هم من مرّوا في مكان الانفجار قبل/ أو بعد دقائق…
هؤلاء، وأنا من بينهم، يسموننا أصحاب ” الديك الذي يبيض”!
قبل احتلال العراق، بأربعة أيام، كنت في بغداد. وأحد أهم الأشياء التي يفعلها زائر لبغداد : زيارة متحفها. أكلة سمك مسقوف. والتجوال في شارع المتنبي.
في شارع المتنبي، بين المكتبة والمكتبة… مكتبة. والأرصفة تزدحم بأهم الكتب. وفي تلك الأيام العصيبة والمحزنة من أيام بغداد المحاصرة والفقيرة… باع معظم الكتّاب مكتباتهم ليشتروا الخبز، والبرد ، والحليب.
وهكذا… اشترينا حمولتنا من الكتب بأرخص الأسعار… اشتريت مثلاً “الصخب والعنف” لوليام فوكنر بأقل من ربع دولار. ومجموعة كتب لحسنين هيكل بدولارين. وكان لا بد من قمع الإحساس بالذنب تجاه أصحاب هذه الكتب المدونة أسماؤهم عليها… بالقول: إن لا ذنب لأحد! (وهو غير صحيح ، بمعنى من المعاني) .
………………
بعد عدة أشهر من احتلال أمريكا للعراق… انفجرت سيارة في شارع المتنبي . ودمرت المكتبات والأرصفة، واختلط الحبر الأحمر بالدم الأزرق…

فتذكرت المتنبي في بيتيه:
ودهر ناسه ناسٌ صغار            وإن كانت لهم جثث عظامُ
وما أنا منهم للعيش فيهم           ولكن موطن الذهب الرغامُ

وكتبت هذا الانطباع السريع :
” بعد المتنبي…
بعد شارعه وتاريخه ،  جاء هولاكو ورمى الكتب في دجلة، فازرق من حبرها الماء. وبعدها حاول كل الغزاة الفكريون أن يزوروا المعرفة ، ولكن في العصر الحديث، ثمة من جعل “الكتاب” … كتيبة. فذهبت المعرفة إلى الجحيم،  والهزيمة إلى الجيش.
ثم جاء من يدمّر الرزق الفقير في كتاب بغداد، ويعكّر الزرقة في سماء المتنبي: شارعاً، وكتباً، وبشراً، وثقافات.
شارع المتنبي هو مكان المكتبة، منذ الحروف الأولى، قبل ستة آلاف عام، ومثلها من الألواح السومرية والآشورية والكلدانية.
في شارع المتنبي كنا كمن يمشي على جسد الحروف، وعلى صدر الكتاب، ونلوّث أعتاب الكتّاب والشعراء والفقراء.
في شارع المتنبي اشترينا “عناقيد الغضب” للأمريكي “شتاينبك” بأقل من سعر ربطة بصل. وكان على الكتاب اسم صاحبه العراقي الذي اشترى بثمنه أرغفة لولاده.
اشترينا أكداساً من المجلدات بأسعار ورق الحمامات في بلادنا، وكان عليها بصمات من قرأوها واستعاروها وباعوها… في زمن الحصار، وزمن الحرب، وزمن اليأس.
قُتلت الكتب بالانفجارات، كما الناس، والمتاحف، ودجلة والفرات، ومزارع النايات!
……….
لم أعد ، منذ تلك الأيام من عام 2003 أفكر أبداً بلحظة سلام قادمة، بعد احتلال العراق. بل كتبت، كي لا أنسى، على موبايلي هذ الجملة: ” سقطت بغداد بالسلاح… أما الآخرون فسيسقطون بالأحذية” .
بعد عشر سنوات لم يعد هناك شيء، أي شيء، معصوم عن الخطأ!
لا شيء غير قابل للانفجار:
المعبد. المدرسة. المشفى. الجامعة. المتحف. الفرن… والأهم : البيت. بيت الكائن، الذي قال عنه “أنطوان دو سانت اكزوبيري “في كتابه “أرض البشر” :
“الرائع في المنزل، ليس كونه يؤويك أو يدفئك، ولا كوننا نمتلك منه الجدران، وإنما كونه أودع فينا ، رويداً رويداً ، هذه المدّخرات من العذوبة” .
بعد عشر سنوات أسأل التاريخ :
هل لديك أي شيء لهذه البلادات المتسولة ؟
بعد عشرات السنوات سيكون هناك من يقول:
كنا جرحاً بحجم بلد… في كتاب !
وليس مهماً ، بعد ذلك ، تفجير شارع ، أوشاعر، أومكتبة !

 

23.11.2013

بوابة الشرق الاوسط الجديدة 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى