نوافذ

أفراح مؤجلة

 أفراح مؤجلة …بعنوان “شارع” هذه القطعة.  للشاعرالسوري رياض الصالح الحسين، الذي غادرنا منذ ثلاثين سنة، وهو في العمر أقل من ثلاثين (26).

“هذه مدينة مليئة بالشوارع.

شوارع مفتوحة تؤدي إلى جميع الجهات.

لكن. اسمعني أرجوك، حياتنا مغلقة.

والشارع الوحيد العادل …ذلك الذي يأخذني إلى قلبك.”

كان رياض الصالح شاباً صغيراً شديد اللطف. فرحاً بالحياة، محباً للموسيقى، مغرماً بصخب الأقدام في سهرات الرفاق الراقصة. كان مصغياً، منتبهاً، ذكي الملاحظات…

وفي يده ، دائما ، قلم ودفتر لاجراء الحديث

رياض شاعر أصم .

ولكنه لا يخجل من غياب إحدى أركانات الإنسان…السمع.  ولا يتهيب الاندماج في صخب سهرة، ولا يتورع عن الذهاب إلى حفلات الموسيقى.

كان يلتقط مفتاح الاستماع والتفاعل من حركات وردود أفعال الناس. وكان يستعين بالبصريات أمامه مدعوماً بالبصيرة فيه.

كان رياض محباً وعاشقاً. وواثقاً أن الحياة التي تأخذ شيئاً منك، تهديك بديله.

عاش في غرفة ضيقة، زاعماً أنه في عالم واسع. يقول عن نفسه ما يشبه عنوان إحدى مجموعاته الشعرية: “بسيط كالماء، واضح كطلقة مسدس” فيما اسم مجموعته الأولى “خراب الدورة الدموية”.

أحاول الآن، اختيار لحظات من تنفس الشاعر تلك الأيام عام 1982.

يا سورية الجميلة السعيدة

كمدفأة في كانون.

يا سورية التعيسة

كعظمة بين أسنان كلب.

يا سورية القاسية

كمشرط في يد الجراح…

نحن أبناؤك الطيبون

الذين أكلنا خبزك وزيتونك وسياطك…

أبداً سنقودك إلى الينابيع

أبداً سنجفف دمك بأصابعنا الخضراء

ودموعك بشفاهنا اليابسة.

أبداً سنشق أمامك الدروب ولن نتركك

تضيعين يا سورية، كأغنية في الصحراء.

في هذه اللحظة…لحظة كتابتي هذه ، يتصل الشاعر نزيه أبو عفش ليقرأ لي نصاً كتبه اليوم. وفي هذه اللحظة كنت أتذكر حوارات تلك الأيام (الثمانينات) حول شعر التفاصيل اليومية. والشعارات البسيطة البديلة للشعارات الكبرى.

وذات مرة قلت لنزيه: “دع رياض يبتعد عنك قليلاً”. ابتسم وقال

” اسمع هذه القطعة الطالعة من سن القلم الآن”.

لا أستطيع نشرها لطولها، وهذا مقطعها الأخير:

” لدي الكثير من الكلمات . التي لا بد من ابتلاعها. وإدخالها في كوابيسي .

كلمات لا تقال إلا في المجالس ذات الأمانات. كلمات من التي يسمونها “فظيعة”.  عبقرية ونبوية وصائبة.

كلمات أتمنى لو أستطيع إسماعها لكم الآن.  تستحق أن ينحني الناس إجلالاً لها، ويفوز مخترعوها بأرفع جوائز.

المعذرة…

إنها كلمات بذيئة أكثر مما…بل ربما أقل ما يستحقه قراؤها وسامعوها…

كلمات النبيين الذين لن تروهم في دياركم بعد الآن أبداً.”

……………………

الشعر يمكن أن يكون أنشودة حياة فيما هو رثاؤها. وعندئذٍ تكون رقصة الكلمات…حركة للاقلام فوق صفيح ساخن.

لقد مات رياض من فرط أفراحه المؤجلة !

بوابة الشرق الأوسط الجديدة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى