أمل دنقل .. العابر للأجيال (صالح علي سر الختم)

 

صالح علي سر الختم

أمل دنقل تعالَ كي نكمل الحوار، فالزمرجد لم يفِد لأن عدونا بليد عنيد، لكننا لم نصغ للنداء لم يك جفاء لكن في فهمنا قصور، فإن لاح لك من فهمنا قصور، نرجوك أن تعيد مطلع القصيد، فعيننا المفقوءة، لم تعد ترى لأن قيمة الأشياء، كما أبلغتنا على مشهد من الورى، لا في غلاء سعرها، بل لأن قيمتها في أن لا تشترى، نصك جميل طلعه نضيد، مختصر مفيد، لكن شرفنا الرفيع ناله الأذى لأننا لم نُرِق على جوانبه الدمَ، وبتنا في ربوع أرضنا نزرع الشوك ونجني الجراح ونجلس في مقاهي الخواء نتلذذ من أنين السكالى واليتامى وتعطش الحيارى لأمل ينير قارعة الطريق، مشهد غريب بامتداد رهيب، إذ حسبنا الشحم في من شحمه ورم، فجثونا على ركبتينا ننقب في مقابر تاريخنا المجيد، فما أفلحنا إلا أن نفل فتنة من سُباتها، واستدرنا وأقمنا حولها العويل وأعدنا النواح على مأتم داحسنا وغبرائنا من جديد وعتونا فزدنا على الفُجار فُجور، ففي عرفنا لا يفل الحديد إلا الحديد، يا لها من نكسة العبيد، إن يقتتل في سُوح أهلها أبطالها، وبلغنا من جرأة الغباء أن نرتضي هذا الشقاء، وكل منا في يده نص شريف يردده صباح مساء كببغاء (ألزمتك الحجة يا عبدالله وما درينا أن الله من فعلنا براء).
هكذا بلغ بنا الحال يا أملنا الحبيب، إذ لم يعد من هول ما جرى إلا أن فقد أطفالنا مقدرة أن يفرقون بين ما يستعذب الضحك ويستوحش النحيب، لأنهم لم يدركوا يوماً معنى الحبور فهم لا يميزون بين ملعب الرفاق وجلال وقفة إزاء صمت القبور فحياتهم دوماً مشهد من مشاهد القبور، فكلها قبور في قبور، فلم نطلق على بعضها حبور والآخر نحيب؟ هل ترى إلى أي درجة بلغنا من دهشة تستنطق القبور؟
وما كنت يا أمل فينا إلا زرقاء اليمامة، إذ حذرتنا يوما من غصن الزيتون في فم الحمامة، لمن لا يمد الود ودا ولم يرع للسلم سلاما. ولم تر في الغصن عودا من خشب إنما ايراق من روحه اتقد مذ يوم اورق من أيكته في فلك نوح بشارة من ذهب، حيث دلّهم على سلامة الطريق، ومنذ يومها والحمامات حول كعبة الله تطوف تزتنزل رفقة الطريق سلال، وتمنحهم الأمن والجلال، هكذا الله تعالى قال: حرروا عقولكم من العقال.
وقد رأيت ما لم نر فاتخذت لنفسك قطار، واتبعنا سبيل السامري فنفخ في عجله وإخرج الخوار فتفرقت بنا السبل وصرنا من يومها حيارى، نعد العدة للحوار وليس في معيتنا أجندة الحوار، لأن طرفنا الآخر الصديق كفانا عنت التعب فتكفل بإعداد الأجندة الخشب، ولأن بعضنا يُمعن في لعبة الفهلوة والشطارة أبلغنا ليس المهم أن نتجمد عند حافة الشكليات والنصوص فأنتم لا تفاوضون لصوص، لا تتقوقعوا خلف أسوار نظرية المؤامرة فالطرف الآخر لم يصدر من جانبه للمؤامرة قرار، وقيل لنا اسرعوا فهرول بعضنا صوب مدريد فإذا من أوسلو تأتينا البشارة لقد اتفق القوم فكبروا للصلاة ولا تقربوها وأنتم سكارى، ولم يصل منا يومها أحد فقد كان جمعنا سكارى وسرنا بعقلية القطيع فكلما زمر الزامر فهمنا الإشارة، هكذا حتى أدمنا تمرغ وحل الحقارة، وخبرونا أن هذه قمة الجدارة فما قيمة القلب إن لم تشعله وقدة الحرارة.
وقلنا في لحظة انفعال وشاطرنا يمسك بيده جراب كل منكم يلزم باب بلده فلا داعٍ للتزاحم حول قصعان آخر. أليس في أدب الحديث كل مما يليك وابتسم شاطرنا من فن العبارة، وأخرج من جرابه لافتة كتب عليها أوسلو وما بعد أوسلو، فذهب بعض القوم وبقي بعض، وذكرنا بقول حكيمنا كل يلزم باب بلده وأدخل يده في الجراب تارة أخرى وأخرج لنا عربة أوصلتنا لوادي عربة.
هكذا صرنا نتنقل عبر أزقة موائد الحوار كلما سئلنا عن هويتنا، قلنا نحن ضيوف التفاوض، ولم يفسح لنا أحد فقد انفضّ السامر ونحن لم نزل بعد سكارى يالها من شطارة وهكذا تفرقت بنا السبل.
يقول الكاتب أسامة الألفي الذي أعد وأشرف على جمع كتاب "أمل دنقل عابراً للأجيال": شاعران متشابهان وإن جاء أحدهما بفارق زمني عن الآخر بأكثر من الألف عام فما جمعهما سوى نضوج الوعي الإنساني الباكر الرافض للظلم تحت أي مسمى جاءت أو في دسار أي قتاع التبس هما: أحمد أبو الطيب المتنبي وأمل دنقل، فالمتنبي إخوته الإنسانية مع كرامة من نفس ورفض لأخ من أمه إن كان من اللئام، وقد أبان ذلك إذ يقول "وأأنف من أخي لأبي وأمي إن لم أجده من الكرام".
وقتلَ المتنبي بيت من الشعر ذكّره به أحد عبيده بعد ان قرر الفرار لعدم تكافؤ كفة التصادم مع قطّاع الطرق، فناداه عبده ألست القائل: الخيل والليل والبيداء تعرفني والسيف والقرطاس والرمح والقلم، فعاد بعد أن كان قد عبر مجيبا عبده قتلتني يا عبدالسوء ودفع حياته ثمن هذا الوفاء للمبدأ، وصعدت روحه وهي قائلة: إذا لم يكن من الموت بد فمن العجز أن تموت جبانا. فقد اختار أن لا يكون إلى جانب العجز وأن لا يموت جبانا.
رفض المتنبي التنازل عن المبدأ، مبدأ عدم الرضوخ إلى الظلم، وأمل دنقل مات وفي يده بيت من الشعر يشع من نور، يقول: لا تصالح. بعد صراع عنيف مع مرض عضال، نهش الموت جسده وبقت روحه تغرد وهي مرددة: لا تصالح .
أمل دنقل الذي حلت ذكرى رحيله الحادية والثلاثين عن دنيانا في مايو/آيار الماضي 2014، شاعر تجاسر في مواقف رفض الظلم وبقي وفياً للمستضعفين حتى آخر لحظة من عمره ملك بكلتا يديه نواصي الكلم وبيان الفصاحة ورد القصيد، استنطق التراث هضما فجمع الزمان أمسه وغده وجمع الزمان فكان طوع بنانه، وتعد قصائده فتحا من من قراءة استشراف المستفبل برؤي حكيمة، فانطبق عليه القول القائل الأديب وجدان أمة عاش القضية بفكر شاعر، وأحب الحياة بقلب طفل.
لا يختلف اثنان حول إبداع شاعرية أمل دنقل، وإن اختلف البعض حول تقييم شخصيته، غير أن أمل كشاعر موهوب كان يجب أن لا تخلط في أذهان البعض فيجب أن يضع خطاً فاصلاً بين الجد واللعب، بين العام والخاص في شخصية الموهوب فما كان من أمر خصوصيته من حقه وحده فيما ما كان من أمر مواقفه من قضايا الأمة، وقد صدر مؤخراً كتاب عن حياة أمل دنقل بمناسبة ذكرى رحيله الثلاثين في عام 2013 وذلك لتعريف الأجيال به.
وتناول الكتاب الذي شارك في اعداده مجموعة من النقاد تنتمي إلى رؤى جيلين أحدهما جيل الشباب فيما المجموعة الأخرى تنتمي إلى جيل الشيوخ في محاولة لإيجاد صيغة مثلى للتوافق في وجهات النظر حول شخصية الشاعر خاصة وان هؤلاء النقاد ينتمون الى مدارس مختلفة؛ وذلك لتقديم معالجة شاملة لحالة الانفصام التي تراوح مكانها من الشاعر الكبير بسبب الخلط بين ما هو خاص وعام.
ويلقي الكتاب الضوء على كيفية تمكن الشاعر من استخدام التراث في خدمة النص واشتقاق من شخصياته ما يمكن الإفادة منها في التبصر من عبر الماضي كي بتفادى تكرار اخطاء الماضي في قضايا الحاضر والمستقبل مثل استخدام أحداث قصة الزير سالم، وكيفة اعادة التفرد في فن السرد واستنطاق الفلسفة والايديولوجيا بإخراجها مرة اخري من ابواب التراث وتقديم رؤية تحليلية للوقوف على مدى تأثير شعره على شباب ثورة 25 يناير، حيث كانت قصائده ملهمة للثائرين الرافضين للنظام القمعي، فضلاً عن ترجمة تُسبر أغوار حياة الشاعر تساعد على إيضاح كثير من الجوانب الخفية التي على ضوئها نفهم شعره وخفاياه.
كما أودع الكتاب قصدتين كتبت بخط يد أمل دنقل لم يسبق نشرهما، وقائمة ببليوجرافية لأبرز الكتب والدراسات والرسائل الجامعية، التي وضعت عنه وعن أعماله، إثراء البحث العلمي وتسهيلاً للراغبين في الاستزادة من معين الدراسات عنه.
لقد كان أمل – كما وصفته شريكة حياته الأديبة عبلة الرويني في كتابها “الجنوبي” – مزيجاً من المتناقضات فهو صعيدي محافظ حافل بالعصيان، فوضوي يحكمه المنطق، بسيط في تركيبة شديدة التعقيد، استعراضي يتيه بنفسه في كبرياء لافتة؛ في الوقت الذي يحوي بداخله بساطة يخجل معها إذا أطريته وأطريت شعره؛ لدرجة أنه قد يحتدّ على من يمدحه؛ خوفاً من اكتشاف منطقة الخجل لديه، متطرف بجرأة ووضوح، كتوم لا تدرك ما بداخله أبداً، لهذا لم يكن له قط عنوان محدد، إذ قاسم أصدقاءه غرفاتهم وأسرتهم وكتبهم وحتى رغيف خبزهم وكانت صناديق بريده "مقهى ريش" و"دار الأدباء" و"أتيليه القاهرة"، ولم يعرف الاستقرار في مكان واحد – على ما روي لي بعض مجايليه – إلا بزواجه بعبلة الرويني.
ومن كل هذه المتاهات والحياة البوهيمية والألم الداخلي وعشرة صعاليك الأدب تكونت عناصر تفرد تجربته، فلا شيء يجعل المرء عظيماً سوى ألم عظيم على حد تعبير شاعر الرومانسية الفرنسي الكبير الفريد دي موسيه.
وفي غرفته بالمستشفى حيث مات، ولد آخر دواوينه "أوراق الغرفة 8"، حاملاً رقم الغرفة التي شهدت صراعه مع الموت بالمرض الخبيث، وهو الصراع الذي وصفه رفيق دربه الشاعر أحمد عبدالمعطي حجازي بأنه "صراع بين متكافئين": "الموت والشعر".
وفيما كان يصارع سكرات الموت لم تفارقه روح الصعلكة الساخرة التي طالما غلفت قصائده واعتادها قارئه، فلم يكن الموت يعنيه كثيراً بقدر ما تعنيه مفارقات الحياة وتناقضاتها.
ينظر إلى سلال الورد التي أرسلها له الأصدقاء والمحبون تعبيراً عن محبتهم له، فلا يرى فيها حباً وإنما حياة سُلبت وسجل قاتلها اسمه على بطاقة أرفقها بها:
وسلالٌ منَ الوردِ
ألمحُها بينَ إغفاءةٍ وإفاقة
وعلى كلِّ باقةٍ
اسمُ حامِلِها في بِطاقة
كلُّ باقة ..
بينَ إغماءة وإفاقة
تتنفسُ مِثلِيَ – بالكادِ – ثانيةً .. ثانية
وعلى صدرِها حمَلت – راضية ..
اسمَ قاتِلها في بطاقة
يرحم الله شاعرنا أمل دنقل، فلم يكن فقط شاعراً فذاً، لكنه كان أيضاً مجموعة من التناقضات، تجمعت في شخص شاعر أذهل مجايليه وأتعبهم في ملاحقه جديد معانيه وصوره وأخيلته، وتفهم طرائقه في الحكم على الأشياء.
يذكر أن كتاب "أمل دنقل.. عابراً للأجيال" إعداد وإشراف: أسامة الألفي، وصدر حديثا، ضمن مطبوعات الهيئة المصرية العامة للكتاب. (خدمة وكالة الصحافة العربية)

ميدل ايست أونلاين

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى