مساحة رأي

إضاءة على الفتنة

الكاتب السوري عماد نداف

الغريب فعلا أن السوريين يعرفون جيداً أنهم ، بكل أطيافهم وتكويناتهم وانتماءاتهم وأفكارهم، مستهدفون في هذه المرحلة من حياة بلادنا، مستهدفون في وحدتهم ومصالحهم ومستقبلهم، وحتى في البنية الفكرية والذهنية أو الدينية التي ينتمون إليها، وباختصار يتكثف هذا الاستهداف في وطنهم نفسه، يعرفون ذلك جيداً ولا يتداركون الأمر ولا يتحاشون هذا الاستهداف الخطير.

هم وقودُ حريقِ مفتعل يسعى لإشعاله وتأجيجه، بين فترة وأخرى، أعداءٌ كثر في هذه المعمورة، تفرزهم مستجدات الموازين الدولية وتطوراتها ، وتُحَركهم آلة كبرى يحتاج الحديث عنها إلى تفسير طويل .

والقصة لم تبدأ مع سقوط نظام بشار الأسد، رغم أن سقوطه فصل من فصول القصة، وإنما هي مشاريع قديمة يعرفها الجميع، واتكأ النظام السابق على شعارات مناقضة لها، لتبرير شرعية وجوده.

بدأت القصة منذ زمن طويل، وفي كل مرة تحترق أيادينا، وفي كل مرة ، يعلو الصراخ لتدارك الأمر من دون فائدة ، وندفع ثمناً كبيراً.

وفي الأسابيع التالية للسقوط، كسرت المستجدات والوقائع التي شهدها السوريون، رُهاب سقوط النظام، بل وتلاشى أي خوف لديهم من مذبحة أو حرب أهلية تنتج عن السقوط، إلى الدرجة أنهم أخذوا يعدون العدة لأحلام كبيرة، ولحلول سريعة لاقتصادهم ومجتمعهم ودمارهم، وحتى لمشاكلهم اليومية والحياتية، بل إن منهم من أخذ منذ الشهر الأول يستغرب تأخر الراتب أو تحسن الكهرباء أو انخفاض الأسعار وتوفر السلع، وكانت المشكلة الأكبر هي مشكلة تسريح ضباط وعناصر الجيش والمخابرات والشرطة، وكان هناك متاهة في التعامل مع الموظفين المجمدين الذين شكلوا كتلة كبيرة ، وأوقفهم النظام الجديد بحجة أنهم فلول النظام.

خلال تلك الأسابيع تدفق كثيرون ممن تركوا سورية كمعارضين أو متحزبين أو ملاحقين، أو حتى قادة سياسيين، وصنفوا أنفسهم مع صناع الثورة التي اندلعت عام 2011 ، وما هي إلا أيام ، حتى عادوا من حيث أتوا، عادوا إلى أشغالهم وأعمالهم ، ومصالحهم، وربما لم يخطر ببالهم أن البلاد بحاجة لهم في بناء المرحلة الانتقالية من حياة البلاد.

فجأة ، وفي شهر رمضان الماضي، اشتعلت الأحداث في الساحل، بعد مذبحة مفتعلة بعناصر الأمن العام في الساحل السوري قامت بها قوات تابعة لمحمد جابر (حسب اعترافه في حوار مع طوني خليفة) وكانت النتيجة أن أبناء الساحل دفعوا الثمن غالياً وتساقط كثيرون ، وسال دم بريء على أرض الوطن في بقعة كان يفترض أن تدرأ الدولة أي فتنة فيها، وإثر هذه الأحداث عاد الرُهاب الذي كان سائدا قبل سقوط النظام !

تعثرت مشاريع كثيرة كان يمكن أن تؤدي إلى الاستقرار ووحدة الدولة، ثم جاءت حادثة تلفيق عبارات الإساءة للإسلام ونبي المسلمين محمد صلى الله عليه وسلم، لتشعل شرارة أخرى مع الجنوب السوري، وبدأت في جرمانا ثم انتقلت إلى صحنايا، وكادت تشتعل في الجنوب كله ، وفي النتيجة دخلت إسرائيل على الخط، وتحول الرُهاب إلى حجة لمعزوفات جديدة!

لماذا يحصل كل ذلك ؟!

هل كان السوريون بمختلف انتماءاتهم وطوائفهم وتكويناتهم متفقين على ما لايريدونه (نظام بشار الأسد) وهل هم الآن بحاجة للاتفاق على ما يريدونه (هوية سورية ومستقبلها) ؟!

نعم تلك هي المسألة : ينبغي الاتفاق على مايريده مجموع السوريين.

في هذه الحالة، نحن أمام احتمالية وربما أكثر للتوقعات القادمة، الاحتمال الأول هو حسم نتائج سقوط النظام لصالح تيار واحد، وبالتالي خضوع الجميع لهذا التيار وسياساته وأفكاره ، وفي تداعيات هذا الاحتمال ، الذي يعيد الصراع الوطني إلى نقطة الصفر، مفاجآت كثيرة من بينها شكل الحكم وتفاقم مشاكل الدولة السورية وتعقد بناء العقد الاجتماعي الجديد، فكيف سيكون موقف الأكراد، وكيف سيكون موقف الساحل، وكيف سيكون موقف الجنوب، وكيف سيكون موقف المحيط الإقليمي، وحتى الدولي، من هيمنة التيار الواحد (المنتصر)؟

الاحتمال الثاني ، وهو بناء دولة تشاركية جديدة تنهض بالسوريين وتتجه بهم إلى الاستقرار والأمان والازدهار، وهذا يحتاج إلى إرادة من الجهة التي حققت السقوط للنظام السابق بقيادة الرئيس أحمد الشرع والتفاف الجميع حولها، وهنا لابد من البحث عن برنامجه ورؤيته للحل، ففي تصريحاته وأفكاره الكثير من النقاط المضيئة، وفي ظروف الاستقرار التي يشتغل عليها لتنفيذ برنامجه عقبات كبرى لايمكن تجاهلها ، كذلك كشفت الممارسة اليومية في إدارة المؤسسات عن إشكالات اتضح أن أطرافاً كثيرة غير راضية عنها ، وبالتالي أصبح الجو مهيئاً للفتن والتدخلات الخارجية .

ومع تفاقم الوضع، واشتعال الفتن، وعدم وجود إعلام قادر على مواجهة التحريض الهائل في وسائل التواصل الاجتماعي، ومع دخول إسرائيل على الخط ، وتردد أطراف محلية في الرضوخ لمشروع الدولة، برزت فكرة التقسيم كمشروع يُعد لسورية .

أود التأكيد هنا على مجموعة حقائق : أولها أن التقسيم هو إضعاف للجميع، وأن الشعب السوري ليس من أنصاره. وثانيها أن التقسيم ينعكس على الإقليم (الشرق الأوسط بمجمله) ، فلن يكون التقسيم في صالح تركيا ولا في صالح إيران ولا العراق ولا الأردن ولا لبنان، وحتى الخليج العربي والمغرب العربي سيتأثر بنتائجه، لأنه ببساطة سيكون بروفة لتقسيم جديد يطال تلك الأطراف. وثالثها أن التقسيم هو نوع إفشال مشاريع الاستثمار الدولية الكبرى في إعادة بناء سورية بعد الحرب.

ورابعها ، وهو يتعلق بإسرائيل تحديدا، فإسرائيل مع مشروع التقسيم الذي يبرز في الأفق، تتجه حكما إلى محيط من الفوضى سيؤسس حكما لبيئة شعبية مناهضة لها وبعنف ، حتى وإن لاقت أطرافاً يتحالفون معها من المكونات الجدية المفترضة.

أربع حقائق على غاية الأهمية، ومن الطبيعي أن يتدارك السوريون والعرب والعالم تبعاتها ، ويبدأ ذلك من تأسيس الدولة السورية الجديدة نفسها على أسس قوية، وهو المشروع الوحيد القادر على جعل تلك الحقائق  تنحسر إلى نقطة واحدة فقط هي المشروع الإسرائيلي للتقسيم.

كيف تبنى الدولة السورية الجديدة ؟!

الإجابة على هذا السؤال تستدعي المشروع الأمثل الذي سُمي بالعدالة الانتقالية كمرحلة أولى لبناء الدولة السورية، وهي عدالة تقوم بتحديد حضاري ومبدئي لأسس هذه العدالة، وعلى مصداقية الممارسة والفعل معا، وجوهرها أن الدولة للجميع،وأن نقيض الجميع هو (الفتنة)، وتقوم العدالة على دمج الجميع في بنائها ودفعهم إلى الدفاع عنها ، وعندها يمكن الاتجاه إلى الأسس الأخرى في بناء هذا الصرح الذي يمكن أن يلتف حوله الجميع، مهما حصل من فتن .

 

لزيارة موقع بوابة الشرق الاوسط الجديدة على الفيسبوك

لزيارة موقع بوابة الشرق الاوسط الجديدة على التويتر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى