الأسرة السورية تقاوم وحش العوز

تكاد الأسرة السورية تلفظ أنفاسها الأخيرة معيشياً بعد صمودها خلال سنوات الحرب، على واقع معيشي متدهور ومتبدل، وفقاً لتطورات الحرب ومفاعليها تارةً، وارتفاع سعر الدولار، ومعه أسعار مختلف المواد تارةً أخرى، حتى صار المواطن السوري يعيش من دون أن يعيش.

معدل الأجور بات منخفضاً جداً في الداخل السوري، والمجتمع مقسم إلى شرائح عديدة، منها من هجر ومن تضرر، وهؤلاء أيضاً منقسمون إلى من هم مسحوقون من شدة الفقرة ومن في طريقهم إلى درجة الفقر الدنيا، ومنهم أيضاً أبناء الطبقة الوسطى الذين تلاشت طبقتهم وباتوا فقراء، وطبقات أخرى عديدة متنوعة. وعلى الجهة الأخرى هناك الأغنياء الذين يزدادون غنى، ومحدثو النعمة الذين كانت الحرب نعمتهم.

فقراء سوريا باتوا غالبية ساحقة وفق مختلف الإحصائيات، فهناك ما يزيد عن 10 ملايين مواطن في الداخل يعيشون في الفقر الناجم عن الحرب، وحالة التضخم التي نتج منها تآكل الدخل الفردي لهم وتلاشيه.

رافق ذلك ضعف في النظام النقدي، انعكس سلباً على العائلة السورية، خصوصاً ذوي الدخل المحدود والموظفين الذين كانت رواتبهم في العام 2010 تعادل قرابة 300 دولار، بينما هي في العام 2015 لا تساوي 100 دولار في ظل تضخم أسعار السلع والمستلزمات بما يزيد عن 500 في المئة خلال سنوات الحرب.

حسان وزوجته موظفان حكوميان يقبضان معاً قرابة 50 ألف ليرة سورية (360 دولاراً)، يدفعان منها 20 ألف ليرة بدل سكن، ويعيشان مع طفلتيهما بباقي المبلغ. يقول حسان إن «الغلاء المعيشي يستنزف ما تبقى من راتبه قبل انتهاء الثلث الثاني من كل شهر، ما يضطره للاستدانة من أقربائه»، مشيراً إلى أنه يقتصد كثيراً في المصاريف لكن الغلاء أقوى منه.

لا يختلف الأمر كثيراً عند أصحاب المهن. هيثم، مزين شعر، كان متوسط دخله يومياً في العام 2010 يعادل ألف ليرة سورية (20 دولاراً)، بينما وصل الآن إلى 2500 ليرة لكنها لا تساوي سبعة دولارات. ويقول «ميزاني التجاري خاسر، فأنا أشتري السلع وفق سعر الدولار بينما أتقاضى أجري وفق الليرة السورية، وبالتالي فقد كنت أعيش حياة مريحة متوسطة قبل الحرب، والآن أصبحت أعيش مع عائلتي بالحد الأدنى لاستمرار الحياة، حيث توقفت عن شراء اللحوم والأسماك والفواكه، وحددت أنواعاً أساسية من الخضار لإحضارها إلى المنزل، وإذا استمرت الأمور على هذه الحال فسنلفظ أنفاسنا الأخيرة قريباً، علماً أننا نعيش كعائلة أفضل من آلاف العائلات الأخرى. فكيف تعيش تلك العائلات؟» يتساءل مستغرباً.

الثياب، وما يدور في فلكها من احتياجات، باتت ترفاً، ويشترى منها فقط ما يكسو أفراد العائلة، بينما يحظى الأولاد بقدر أكبر من العناية وتخصيص المصاريف لاحتياجاتهم، بحيث يمنحون بعض الرفاهية على حساب أمهاتهم وآبائهم.

ناصر، أستاذ جامعي وزوجته طبيبة، كان راتبه قبل الأزمة يعادل 800 دولار أما اليوم فهو 200 دولار، وهو يقول إن مصاريف العائلة الأساسية، إلى جانب الطعام والشراب والسكن، هي حاجيات الأبناء والتعليم، وهذا يتطلب نفقات كبيرة، خصوصاً إذا قرروا منح العائلة بعض الرفاهية على اعتبار أنهم كانوا محسوبين على الطبقة الوسطى.

ويشير الأستاذ الجامعي إلى أن ابنته طالبة طب حالياً، وتحتاج مصروفاً شهرياً يزيد بستة أضعاف عن مصروف شقيقها الذي كان في الجامعة في العام 2010.

يوسف رزق بتوأم قبل فترة، ولديه طفلة لم تتجاوز الثانية من العمر، يحتاج شهرياً لأكثر من 50 ألف ليرة سورية ليؤمن الحليب والمواد الصحية لأطفاله، وهو مبلغ كبير جداً ومنهك لأسرة من ذوي الدخل المحدود.

كل الذين تحدثنا عنهم في السابق هم من العائلات التي لديها مصادر دخل، فيما هناك عشرات آلاف العائلات بلا دخل، وتعيش على المساعدات، التي إذا قطعت عنهم فسيموتون من الجوع. مها، مهجرة من حمص، تسكن في بيت مستأجر، ومعها ثلاثة أطفال، ليس لديها أي مصدر دخل وتنتظر المساعدات التي لا تمنحها إلا النزر اليسير. تقول، معلقة على واقعها، «في السابق كنا نقول عن حالنا إننا أحياء من قلة الموت، أما الآن فنحن موتى من قلة سبل العيش».

قسم كبير من العوائل السورية في الداخل بات لديهم فرد خارج البلد، وهذا سر صمود الأسرة السورية حتى الآن، حيث إن التحويل من الخارج هو مفتاح الحياة بالنسبة لهم، فأبناؤهم يرسلون لهم مصاريفهم بالدولار ما يساعدهم على البقاء.

ليس الدولار وحده هو السبب في هذا الواقع، فهناك التجار الذين يتحكمون بأسعار السوق ويتلاعبون بها حسب هواهم، وهم ماضون في تدخلهم السلبي، ومساهمتهم في رفع أسعار المواد واحتكارها والتلاعب بالسوق حسب هواهم، من دون أن تتوفر القدرة على ضبطهم، ولا يدخرون فرصة لوضع الدولار كحجة لما يقومون به، وهم على ما يبدو ماضون في ابتلاعهم لمقدرات الشعب واستنزاف قدراته ومدخراته.

اتحاد غرف الزراعة السورية كان قد نبه من دور التجار في رفع الأسعار. وخلال اجتماع له بيّن الأعضاء أن كلفة استيراد المواد الغذائية الحقيقية لا تتجاوز نسبة 25 في المئة من السعر الذي تباع به في الأسواق، ما يعني أن التجار يربحون ثلاثة أضعاف التكلفة والضحية هو المواطن البسيط.

الحرب هي المسبب الرئيس لتردي الوضع المعيشي للناس. هكذا تقول وزيرة الاقتصاد السابقة في الحكومة السورية لمياء عاصي. وتضيف «الحصار الاقتصادي الغربي ألحق الضرر الأكبر بالمواطن، فهو يجعل المشتريات والصادرات أكثر كلفة وأقل تنافسية، إلى جانب غياب النفط كمورد رئيسي للموازنة، في ظل عدم بذل جهد حقيقي لإيجاد موارد بديلة».

وتضيف عاصي «اليوم ليس هناك حل سحري، لكنّ هناك طرقاً لرفع الناتج المحلي الإجمالي عن طريق زيادة الإنتاج الوطني الصناعي والزراعي زيادة رئيسية».

ما يحصل في السوق هو أن التاجر لا يبيع حسب كلفة الاستيراد مضافاً إليه ربح معقول، ذلك لأنه يريد ضمان أن ثروته من العملات الصعبة ستزيد أو تحافظ على مستواها على أقل تقدير، ولأن الثقة بقيمة العملة المحلية تكاد تكون شبه معدومة، ناهيك عن عدم وجود الرقابة الفعالة وغياب المنافسة الحقيقية بين التجار بل يكاد يسود السوق نوع من الاحتكار، هذه أسباب جذرية لارتفاع الأسعار ارتفاعاً جنونياً وغير متناسب مع أسعار الصرف بل يفوقها بكثير، تقول عاصي.

جاء في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، في المادة 23 منه، ان لكل فرد يقوم بعمل الحق في أجر عادل يكفل له ولأسرته عيشة لائقة بكرامة، وعند اللزوم تضاف وسائل أخرى للحماية الاجتماعية، وهذا ما هو محروم منه المواطن السوري الذي تعيش بلاده حرباً يدفع ضريبتها كل يوم.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى