كتب

التكفير عن الخطيئة وتأثيرها على تكوين بطل رواية ‘لاوروس’

التكفير عن الخطيئة وتأثيرها على تكوين بطل رواية ‘لاوروس’ فلابد ان نعترف ان جميع النصوص الأدبية غير قادرة على ان تجرد نفسها من النصوص الغابرة حتى وان جاءت بجديد فهي اشبه بالظل وشتان ما بين الظل والأصل.

صحيح ان فودولازكين اعتمد اعتمادا كلياً على الوثائق وخياله الخصب، ولكنه في هذه الرواية اضفى على نصه ميزة مهمة وهي الأصالة.

تدور احداث هذه الرواية في القرن الخامس عشر والقرن السادس عشر، ومدى تأثير الطاعون على حياة الناس آنذاك، الاحداث الرئيسية في هذه الرواية: الطاعون وموت زوجة بطل الرواية وهي أوستينا في اثناء الولادة، ومن جراء هذه الحادثة يشعر البطل بأنه أذنب اتجاه حبيبته وطفلهم الذي توفى ايضا اثناء الولادة.

وهذا الشعور سيجعل من البطل انساناً يعيش على ماضيه الحزين الذي يتمثل في وفاة أوستينا، ولكن هذه الحادثة تجعل منه انسانا زاهدا ومتصوفا ومحبا لمساعدة الناس، ويمن الله عليه بموهبة شفاء الناس.

لذلك فهو يكرس حياته من اجل معالجة الناس عسى وان يكفر عن ذنبه اتجاه أوستينا ويتحقق اللقاء معها، لذلك دعونا نرَ كيف يتذرع ويتوسل إلى الرب لمساعدة طفل مريض وفي ذات الوقت يُعد نفسه مذنباً بحق أوستينا، فيقول: “ساعدْهُ، فهذا عليك، يا رب، سهل يسير أعرف أنَ دعائي وقاحة. وحتى أني لا أستطيع أن أقدم حياتي بديلاً عن الصبي، لأني قدَمت حياتي لأوستينا، التي أنا مذنب إلى الأبد بحقها.

ولكني كل أمل في رحمتك التي لا حدود لها، وأسألك، يا رب: أن تحفظ حياة عبدك سيلفستر “. (1).

يمر البطل بعدة حيوات وكل حياة يكون له اسم يدل على هذه الفترة التي قضاها من حياته في بداية حياته يحمل اسم “أرسيني” ،”حكيم”، “صاحب اليد الشافية”، “الطبيب” ، “أوستين”، “القديس أمفروسي ولاوروس .

وتعدد هذه الاسماء أضفى على النص مصدر قوة في النص للكاتب فودولازكين، لانه استطاع ان يصور لنا الحوادث التاريخية والحياة الروسية في تلك الحقبة القاسية.

يستخدم الكاتب شخصية ثانوية وهو “أمبروجو” وهذه الشخصية لعبت دورا كبيرا في احداث الرواية، ترافق البطل في رحلته الى القدس، ومن خلالها الكاتب يطرح مواضيع حيوية: مفهوم الزمن ونهاية العالم وتاريخ العالم.

ويبدو لي ان هذه الشخصية تمثل المستقبل المبهم والمجهول الذي يحيط بهم آنذاك، لذلك عندما يسأله أرسيني حول نهاية العالم هل موجودة بالفعل الآن، فيقول أمبروجو : “أنا لا أستبعد هذا. فهناك موتٌ لبعض الأفراد، أليس هذا هو نهاية الشخصية للعالم؟ وفي نهاية المطاف، التاريخ العالمي هو جزء فقط من التاريخ الشخصي” (2). فقد استطاع امبروجو ان يتنبأ بمعسكرات النازية التي حدثت في الحرب العالمية الثانية وغيرها من الاحداث التاريخية.

وفي نهاية المطاف يتم قتل الايطالي أمبروجو على يد قطاع الطرق اثناء رحلتهم إلى القدس، وعلى ما يبدو لي ان الكاتب استخدم هذه الشخصية حتى يجيب على اسئلته التي تدور في خلجاته.

نعود الى بطل الرواية “لاوروس”، على الرغم الهالة القدسية التي يتمتع بها هذا البطل، ولكنه ظل خائفاً من الذهاب في الطريق الخطأ، فهذه المسألة سيطرت على تفكير البطل إلى اخر يوم في حياته.

فيقول: “إني أخشى فقط، يا أمبروجو، أنَ عملي كله لا يساعد أوستينا، وأنَ طريقي لا يقودني إليها، بل يبعدني عنها. وبسبب نهاية العالم القريبة الحلول، فأنت في الواقع تفهم أنه ليس لديَ الحق في أن أضل طريقي. لأنني إذا ما ذهبت بالطريق الخطأ، فعندئذ لن أجد الوقت الكافي للعودة إلى الطريق الصحيح” (3).

وهنا يطرح سؤال ايضا هل وجد لاوروس طريقه في الحياة؟ فقد اجابة الكاتب عن هذا السؤال بطريقة غير مباشرة، اي ان الزمن الذي في الرواية اخذ وقتاً طويلاً من بطله حتى يجد طريقه.

فيقول السارد: “ثم تبدلت دموع الحزن بدموع الامتنان. لقد شكر الله سبحانه وتعالى لأن أوستينا لم تبق بلا امل، وإنه، أمفروسي، يمكنه أن يسأل الله لها، مادام على قيد الحياة، ويعمل من أجل مصلحتها الروحية… ارتبطت السكينة عند أمفروسي بالأمل الذي تعزز في نفسه مع كل يوم عاشه في الدير أكثر فأكثر.

لم يعد الآن يشك في صحة طريقه، لأنه اقتنع بأنه يسير في الطريق الوحيد الممكن.” (4).

ومن الامور المهمة التي لابد الاشارة اليها ايضاً أن السارد في هذه الرواية يتنقل عبر الزمن بحرية كاملة، وكأن هذه الرواية هي مخطوطة تاريخية وعلى ما يبدو ان الكاتب استقصى معلوماته من التاريخ.

لذلك نجده يقول في الرواية: “ان مخطوطات أمفروسي محفوظة حالياً في مجموعة كيريل –بيلوزيرسك التابعة للمكتبة الوطنية الروسية سانت بطرسبورغ يُجمع الباحثون الذين يدرسونها على أنَ يد الكاتب الذي كتبها ثابتة، وأنَ خط اليد مكور وهذا، في رأيهم، يشير إلى تمتع أمفروسي بالتماسك والوئام الداخلي” (5).

في نهاية الرواية موت البطل “لاوروس” يكون تراجيديا، ولكنه أوصى قبل وفاته، وجاء في وصيته: “الحقيقة، أنا لديَ طلب أيضاً. عندما أغادر جسدي، الذي ارتكب الخطيئة به، لا تقيموا له مراسم خاصة. اربطوه بحبل من الرجلين وجروه إلى أدغال المستنقع لكي تقطعه عُسلان الفلوات وزواحفها” (6).

تنفذ وصية القديس لاوروس، ولكن اثناء مراسيم تنفيذ هذه الوصية يقع جدلاً بين الحداد والتاجر سيغفريد : “أي نوع من الناس أنتم، يقول التاجر سيغفريد. الرجل يعالجكم ويشفيكم ويكرسُ لكم عمره كله، وأنتم طوال حياتكم تعذبونه. وعندما يموت، تربطونه من رجليه بحبلٍ وتسحبونه” (7).

وفي ذات الوقت الحداد يسأل التاجر سيغفريد ويقول لهُ : “لقد مضت عليك في بلادنا مدة عام وثمانية أشهر (يجيبه أفيركي الحداد)، لكنك لم تفهم أي شيء فيها، وانتم أنفسكم هل تفهمونها (يسأله سيغفريد). نحن؟ (يتأمل الحداد وينظر في سيفغريد). نحن أنفسنا، بالطبع، لا نفهمها أيضاً.” (8).

وهنا بالذات ينبغي علينا ان نتوقف ونتأمل هذه السطور الأخيرة من الرواية التي تعبر عن روسيا بأكملها، وتوحي للقارئ بأنهم بحاجة الى اعادة النظر في فهم بعضهم البعض، وهذا دليل قاطع ان هذه الرواية هي عابرة للزمن وتحاكي الحياة الروسية المعاصرة بطريقة غير مباشرة، وهذا ما كنت اقصده في بداية المقال ان هذه الرواية مليئة بشفرات ويصعب علينا نحن كأجانب حلها.

واخيراً، رواية “لاوروس” ليست رواية عادية، بل انها رواية تاريخية ودينية يمتزج فيها الواقع بالخيال، والزمن فيها متحرك ولا يقف في مكان واحد، وترجمتها تحتاج الى دراية كبيرة ومعرفة في خبايا النص وابعاده التاريخية، والقدرة على نقل روح النص الذي في بعض الاحيان يكون مشفراً من قبل الكاتب نفسه، فقد استطاع المترجم بكل براعة تجاوز هذه العقبات ونقلها الى لغتنا الجميلة بإخلاص وأمانة .

وقد حازت رواية “لاوروس” للكاتب الروسي المعاصر يفغيني فودولازكين على جوائز أدبية عديدة في عام 2013، ومن هذه الجوائز: “جائزة ياسنيا بوليانا” و”جائزة الكتاب الكبير”. وترجمت في الأعوام الماضية الى العديد من اللغات.

وقام المترجم العراقي د. تحسين رزاق عزيز في نقلها الى اللغة العربية، وعملت “دار المدى” على نشرها وصدرت في عام 2018.

 

 

ميدل ايست اون لاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى