أنسام صيفية

الخلوة مع النفس

لم يعلمني أحد أن أهتم بالخلوة الصافية مع النفس كرياضة روحية لا أمتع منها ولا أعمق ، فلقد ولدت وترعرعت في بيت صاخب ، و حين إشتد عودنا لم يلبث جيلنا أن انغمس في بحر النضال الوطني ضد الإحتلال الأجنبي ثم ضد الحكومات الوطنية الرديئة بعد الإستقلال ثم تزوجنا و صار للواحد منا أسرة مسؤول عنها في كل أمورها و ما أكثر من مشاغل و أعقدها من هموم .

هكذا مر العمر و نحن ما نزال غرقى في دوامة الحياة اليومية فنكاد لا نخلو إلى أنفسنا إلا ساعة النوم أو أيام المرض . غير أنها لم تكن الخلوة التي أعنيها و هي الفسحة الصافية من الزمن التي نكون فيها بكامل صحونا و وعينا ثم لا يشغلنا فيها شاغل سوى الإخلاء إلى الصمت و التأمل و التذكر.

هذه الخلوة النقية للجسد أو للروح لم تسمح لنا بها أساليب تربيتنا ، و حين كنا نحظى بها أحيانا لم نكن نقدرها حق قدرها بل نحن نختصرها في الضجيج البشري الذي كان يلتهمنا فلا يترك لنا ألطف مشاعرنا و أنقى تأملاتنا فلا يبقى لنا سوى صخبها و تلوثها .

في هذه الخلوة أمس ليلا مع نفسي شعرت شيئا فشيئا أنني أوغل في تفكير عميق جدا لم أعرفه من قبل وجدتني أسأل نفسي ما عساني أكون في هذا الكون المفتوح جانبه لكل أصناف البحث و التفكير وأجدني خلية ضئيلة جدا بالنسبة لكون يحتوي كما يقول علماء الفلك مليارات المجرات فمن أنا بالنسبة لهذا الكون .

كان عقلي يسبح وحده – مجازا – في خضم فضاء لا حدود مفهومة ثابتة له ..أين نحن في هذا الخضم الكوني الخارق الإتساع ؟ نحن ننتمي إلى مجرة ” سميت ” ( درب التبانة ) تحتوي تقريبا مليار نجم كشمسنا و مليارات الكواكب التي تدور حول نجومها و أرض لنا نحن البشر ككوكب ضئيل يدور حول نجم سميناه ” الشمس ” عند أطراف المجرة .. نحن البشر لا نشاهد عمليا سوى جزء متغير من مجرتنا و المساحة التي تحتلها على هذه الأطراف لتصل إليها تحتاج لمئات السنين في أسرع صاروخ ممكن، فما هي حدود هذه المجرة و بالتالي ما هي حدود هذا الكون العجيب ؟

نسيت في تلك الخلوة كل ما تعلمته من قراءاتي و لم أعد أذكر و أفكر إلا بالمغزى الأعمق لهذا الكون الفسيح الذي يحتوي على مليار مجرة مثل مجرتنا فمن هو الذي أوجد كل هذه المادة العجيبة و لماذا صانعها صنعها ؟ و من نحن البشر بالنسبة له ؟

يا إلهي أية بحار خارقة العمق غرقت فيها خلال خلوتي هذه مع نفسي ؟ هل في الإمكان أن نعرف فعلا مصيرنا الشخصي بعد موتنا و مصير البشرية جمعاء و النجوم التي سوف تنطفئ مع الزمن المديد و الكواكب التي تدور حولها و تتبدد أيضا مع الزمن …

لا …لا …توقف يا رجل عند حافة تفكيرك هذا و إلا وصل بك هياجك الفكري إلى ما يشبه الجنون ..لا…لتكن خلوتك مع نفسك مجرد أغنية بسيطة مفهومة لكائن بشري سهران تائه وحده … و لا أحد معه ينجده على الإطلاق!…

بوابة الشرق الأوسط الجديدة

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى