الدقائق الخمس الزرقاء !

وحيدا كنت، وأنا أعبر شوارع المدينة في لحظات الفجر!

انتابني شعور بالوحدة الداخلية، ويحمل هذا الشعور عادة تناقضات كثيرة ، فهل هذه سعادة طالما أنك تمشي في المدينة التي تحب، وتمر في الشارع الذي تشتعل فيه الذكريات في لحظات خاصة جدا ؟ أم هي تعاسة أن لاتجد أحدا يمشي معك في الوقت والمكان اللذين تحب فيهما المشي؟! هناك شعور آخر ، خاص ، ينتاب بعض الناس في هذه الحالة، ولاينتاب كل الناس، هو أن هذا الوقت يجعل الإنسان شفافا إلى الدرجة التي يرتقي فيها إلى سوية عالية جدا من الإحساس…

نعم ، وكثيرون اهتموا تاريخيا بهذه اللحظات، فالفرنسيون، وعلى نحو أدق ، بعض المختصين بعلم النفس يسمون هذه الدقائق بالدقائق الخمس الزرقاء، ويتوقعون فيها أن يحظى من يعيشها بلحظة استكشاف يمكن له فيها أن يتنبأ أو أن يستشرف مسائل لا يصل إليها الناس العاديون !

وفي الحديث الشريف جاء مانصه : ((إِنَّ اللَّهَ يُمْهِلُ حَتَّى إِذَا ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيْلِ الْأَوَّلُ نَزَلَ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَيَقُولُ: هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ؟ هَلْ مِنْ تَائِبٍ؟ هَلْ مِنْ سَائِلٍ؟ هَلْ مِنْ دَاعٍ؟.. حَتَّى يَنْفَجِرَ الْفَجْرُ؟))

والجميل في هذا الحديث أنك عندما تحاول مطابقته مع حركة الشمس ودوران الأرض فإن الثلث الأول من الليل يتحرك مع هذه الحركة ، وهذا يعني أن الله دائما يرافق هذا الكوكب بالسؤال ((هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ؟ هَلْ مِنْ تَائِبٍ؟ هَلْ مِنْ سَائِلٍ؟ هَلْ مِنْ دَاعٍ..؟))، وعندما يبتعد الإنسان عن المعاني الدينية للحديث، يجد أن لحظات الفجر خاصة جدا لرؤية ما لايراه الآخرون وكأنها تكشف خفايا النفس وتجعلها شفافة ذات بصيرة قوية!!

ولكي لايبدو ما أكتبه خطبة جمعة، أعود إلى شوارع المدينة في لحظات الفجر، يمكن لمن يحدق في أي اتجاه من الاتجاهات أن يكتشف أن الصفاء الروحي الذي ينتابه يتعلق تحديدا بالجهة التي توشك فيها الشمس أن تدفع العتمة بعيدا، فيتلون الأفق باللون الأزرق ، وتصبح السماء مغسولة تماما ، صافية دون أي غبش فيها، ومن الطبيعي أن ينعكس هذا على الداخل الانساني، فيؤثر فيه، ويجعله يشعر بالصفاء الداخلي وبحالة صدق نادرة !

الذي حصل معي، بعد عدة مرات من معايشة هذه اللحظات هو أن أحاسيسي كانت تصل أحيانا إلى درجة الصفر، ثم تتسع إلى درجة تدفعني إلى أقصى لحظات الإحساس، فتارة كنت أشعر بالندم ، وتارة كنت أشعر بالسعادة، وتارة كنت أشعر بالحب ..

وفي آخر مرة ، وكانت السماء زرقاء واضحة تماما ، وكانت الشمس من جهة الشرق تحاول بث نورها الذي يلون الأفق باللون الأحمر، في تلك اللحظة تذكرت فكرة الدقائق الزرق عند الفرنسيين ، وتذكرت أيضا ماقرأته بالموسوعة البنفسجية ذات يوم ، فقد قرأت أن تلك اللحظة هي لحظة تمن !

كان علي أن أتمنى سريعا، وتمنيت.. أتعرفون ماذا تمنيت ؟!

تمنيت أن لاتشرق الشمس أبدا وأن تبقى السماء : زرقاء .. زرقاء .. زرقاء كما كان يغني بطل المسلسل الفرنسي القديم، السجين الهارب ((فيدوك)) :

من لم ير السماء الزرقاء
لايعرف المعنى الحقيقي للحرية ..
أنا أعرفها، فإني هارب!!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى