الرقص في غرفة مغلقة

فاجأت نفسي مرة مأخوذا برغبة لا تقاوم في أن أنهض فاحرك جسدي على إيقاع راقص حسب موسيقا وصلت إلي من الخارج …، و هكذا نهضت فرميت كتابا كان في يدي ووقفت و أنا أحرض عضلاتي على أن تطاوعني في تحريكهما على إيقاع الموسيقا الراقصة التي كنت أسمعها…

لم يكن لرقصتي أي معنى أو أصول محددة سوى أنها إستجابة للإقاع الموسيقي في حركات طليقة عفوية حتى لكأن إمتداد الذراع أو لفتة العنق أو طي الساق أو القفز و غيرها من حركات لم تكن سوى تعبير عفوي عن الموسيقا ذاتها .

كان باب غرفتي مغلقا و لو كان مفتوحا لما تجرأت على هذا التصرف و لكن ربك ستر حين هاجمني الإعياء فاستلقيت على مقعدي مسترخيا لاهثا و أنا أشعر ببهجة لا توصف!

و قبل ذلك أذكر إنني كنت ذات ليلة مستسلما لتيار الشعر يجرفني إلى عوالم سحرية فإذا بي أتوقف بغتة عن الكتابة حين داهمتني عبارة تصف حركة معينة من العناق بين رجل و إمرأة وجدتها طازجة مناسبة جديدة غير أنها كانت تلامس صورة جنسية مثيرة فترردت فتوقفت فتبددت الحالة الشعرية بأكملها و حين حاولت إستعادة طاقتي وجدتني فارغا عاجزا عن إضافة كلمة واحدة …..

تلك حالة من حالات كثيرة تمر بي كما تمر بكثيرين في مجتمعاتنا الشرقية المتخلفة ، أتأملها الأن بعين جديدة و قد كثر الحديث في عهودنا الأخيرة عن الحرية و الديمقراطية و حق الإنسان في التعبير عن مشاعره و أفكاره فأكاد لا أجد تفسيرا مقنعا لجمود مجتمعاتنا و عجزها عن التطور الخلاق المبدع إلى نهضة حقيقية قوامها الإبداع و الإبتكار و الإكتشاف و التقدم العلمي سوى أن الإنسان في هذه المجتمعات يتشدق بالحديث عن الحرية فإذا حصل عليها أساء إستخدامها فورا حتى إذا فقدها من جديد لم يشعر بفقدانها و لا بالأسف العميق عليها ، مصدقين في هذا السياق ما تفرضه العادات و التقاليد البالية و ما أكثرها و أقواها وإذ تقوم بدور الرقيب المتشدد أكثر من الحكومات المستبدة فأين المفر؟

إن الحالات هذه يجب ألا تفهم على أنها أمثلة حقيقية لا خطرا كبيرا فيها مما يتصل بعوامل التقدم و التخلف. غير أن المتأمل المتعمق في مغزاها لا بد أن يكتشف أن عالم المحرمات يكاد يغطي على معظم حياتنا اليومية منذ لحظات الولادة مرورا بالمراهقة فالشباب إلى الشيخوخة فالأنفاس الأخيرة ، فكيف يستطيع صاحب الموهبة أن يبدع حقا و هو محاصر بالممنوعات و المحرمات فهذا عيب و ذاك حرام.. و تلك خطيئة و ذاك إثم و هكذا .. فإذا سبقتنا الأمم المتقدمة الأخرى في ميادين التقدم فليس ذلك إلا لأن الإنسان فيها منذ طفولته يجد نفسه رائعا في بحبوحة من الطلاقة و التحرر ، لها حدودها القانونية بالطبع و لكنها لا تشبه في شيء الحدود التي نعاني منها نحن سكان النصف الجنوبي من الكرة الأرضية أوشرقها الأدنى و المتوسط و بعض أقطار الأقصى منها .

و هذا ما يتيح للإنسان الأوربي مثلا أن يبتكر و يبدع و يكتشف من دون أن يخشى منعا أو عقابا ، أو ترددا معطلا أو نقصا في التمويل .. من هنا أسأل نفسي و على الجميع أن يسألوا أنفسهم مثلي :” هل أنا فلان” الذي يعرفه بعض الناس هو ذاته حين يخلو إلى نفسه كما رقصت أنا وخفت أن يراني أحد ؟

هل أنا حقا “فلان” هذا ؟ … أم أنني في خلوتي أحول إلى شخص آخر ؟ و المؤسف أن الشخص الآخر هو الأكثر شعورا بالحرية و الأقدر على الإبداع !…لا لشيء سوى أنه يستطيع أن يرقص في غرفة مفتوحة دونما إنقطاع بسبب الخوف من أن يراه الأخرون و السلطة الحاكمة في رأسهم !

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى