العنف في الحروب الأهلية II الـقــنـــــّاص والمنتـــــــقـم (فواز طرابلسي)

فواز طرابلسي

«لا أبرياء في الحرب»

هوذا (جوزيف) سعادة يعلن حقيقة من حقائق كل حرب اهلية: لا ابرياء في الحروب الاهلية ولا براءة. اعترفَ بأنه قتل 75 رجلاً بمفرده، من اصل مجموع لا يقل من 200 ضحية. ها هو الانتقام العددي قد تضاعف ثلاثة اضعاف: قتل سعادة وصحبه 50 مسلماً مقابل كل قتيل كتائبي، وهو حرفياً ما أقسم عليه في مشرحة المستشفى امام جثة ابنه.
بعد المجزرة، تولى بشير الجميّل «التغطية» على جوزيف سعادة فعيّنه مسؤولاً عن المكتب الرابع (التجهيز) في التنظيم العسكري للحزب الذي كان بشير نائباً لقائده. وفيما منح الحزب والطائفة الرعاية لـ«والد الشهيدين»، كان الناس في بيروت الغربية يسمّونه «سفاح السبت الأسود».
غير أن الثأر الجمعي، بكل ما فيه من خبل، لم يكن ليروي غليل «بطل» قصتنا. صحيح أنه كان بالإمكان اعتبار كل مسلم مسؤولاً عن موت ولديه. الا ان جوزيف سعادة كان يريد معاقبة المتهمين الفعليين هم ايضا. والمفارقة في الامر انه قد حصل له ذلك. فبعد سقوط مخيّم تل الزعتر، تسلّم جوزيف سعادة من امين الجميّل، رئيس الجمهورية لاحقاً والقائد العسكري للهجوم على تل الزعتر، ثلاثة فلسطينيين يفترض أنهم القتلة الحقيقيون لابنه رولان. وكي تكتمل غرائبية ذلك الطقس الدموي، قرر جوزيف سعادة احتجاز مخطوفيه الثلاثة في… قصر العدل! كان يزور المبنى المهجور يومياً برفقة رجال ثقاة ويعرّض المخطوفين لأبشع انواع التعذيب على امتداد أكثر من اربعة شهور. وكانت المدة لتطول اكثر من ذلك، لولا ان سعادة خشي الدخول السريع لقوات الردع العربية الى بيروت الشرقية، فقرر إعدام سجنائه في الذكرى الاولى لمقتل ابنه، يوم 6 كانون الاول 1976، وفي المكان ذاته حيث عثر على جثة رولان.
عرفت الحروب اللبنانية عمليتي ثأر جمعي استبدالي تمثلتا في ردود الافعال على اغتيال كمال جنبلاط وبشير الجميّل. ومع ان ثمة فارقاً بين العمليتين من حيث درجة العنف وعدد الضحايا، غير أن المشترك بينهما هو تركّز الثأر على ضحايا يصعب إجمالهم بما هم متهمون بقتل أي من الزعيمين السياسيين. عند موت كمال جنبلاط، قَتل أنصارُه لا اقل من مئة مسيحي في عدد من قرى منطقة الشوف. يصعب التصوّر ان اعمال الثأر تلك كانت مدبّرة سلفاً، او انها ارتكبتْ عن سابق تصوّر وتصميم. في المقابل، كان السعي الى إجلاء المخيمين الفلسطينيين في صبرا وشاتيلا بواسطة المجزرة الاشهر للحرب الاهلية، فعلاً جماعياً منظماً ومدبّراً قبل اغتيال بشير الجميّل وقد نفّذ بعد اغتياله عن سابق تصوّر وتصميم. خلال المجزرة، قضى لا أقل من الف فلسطيني ولبناني وكان هدف العملية احداث ما يكفي من الترويع لدفع المدنيين الفلسطينيين الى الهجرة من بيروت، بل من كل لبنان. ومهما يكن من امر، في كلا الحالين لم يسهم ارتكاب العنف على غير المذنبين في خداع العنف ولا في إهماده.
هل تطبيق القانون الجزائي الحديث – تنفيذ حكم الإعدام «بالقاتل الذي لا يستطيع أن ينتقم» حسب عبارة جيرار – سوف يروي غليل الأب المنكوب؟

معارضة الأب پانو

قبل الاجابة عن هذا السؤال، لنتوقف هنا لبرهة كي نسأل: هل انتقام الاب سعادة كان رد الفعل الوحيد الممكن والقابل للتصوّر على جريمة اغتيال الكتائبيين الاربعة؟ لن يأتي الجواب عن سؤالنا من خلال اي ديّان او مرجع اخلاقي او ديني. ولا معنى ان يأتي من هذا السِلك. الجواب صادر عن والد أحد ضحايا الذين قتلوا مع رولان سعادة، وقد رواه جوزيف سعادة ذاته في كتابه. خلال «السبت الأسود» كان والد ايلي پانو، أحد افراد الـ «ب.ج.» الأربعة الذين قتلوا مع رولان سعادة، يلاحق جوزيف سعادة ورهط القتلة وهو يصيح بهم بما يبدو أنه الخبل عينه: «أنتم وحوش. إنكم تقتلون العمال، الكناسين، الفقراء. اقتلوا المجرمين لا الأبرياء!».
على عكس الاب سعادة، كان الاب پانو يعتقد انه لا يزال يوجد ابرياء في الحروب الاهلية، حتى في أشدها فتكاً وهولاً. فاذا كان لا بد من القتل، فالاحرى قتل المجرمين الحقيقيين. غير ان خطاب الأب پانو اكثر ثراء بالدلالات. للوهلة الاولى يبدو انه يدعو الى إحقاق الحق حتى لو عنى ذلك ان يتولى المرء تطبيق القانون بنفسه. لكن الصيحات الصادرة مباشرة عن قلب هذا الاب المفجوع تعبّر عما يمكن تسميته بـ«شعبوية التعايش» التي لا تزال عميقة الجذور في ضمير ابناء الشعب ووعيهم، على الرغم من كل شيء. فالاب پانو، لا يؤمن بالانتقام من «كبش محرقة»، بل انه لا يؤمن ايضاً بأن «الآخر» كل متكامل وموحد، ولا هو يؤمن بتفريد «الآخر» الجمعي من جهة اخرى. المسلمون منقسمون مثلما قومه منقسمون الى اغنياء وفقراء، حكام ومحكومين. اما الادعاء بأن الاب پانو يريدنا ان نفهم ان العمال والفقراء ليسوا يقتلون فينطوي على تبسيط شديد. الاحرى انه يكرر حكمة شعبية لا تلبث ان تظهر الى السطح باستمرار: انهم الزعماء والاغنياء من جرّنا الى هذه الحرب، نحن الفقراء من كل صوب، ومنهم يجب الانتقام. بهذا المعنى، لا بمعنى غسان تويني، يمكن القول، مع الاب پانو، ان الحروب الاهلية كانت «حروب الآخرين». لكنهم «آخرو» الداخل، في هذه الحالة، لا «آخرو» الخارج. إن القتلة الفعليين ليسوا من ينفّذ الجريمة بل من يحرّ ض عليها.

«اسياد الدم»

لنعد الى الاب المنتقِم. جوزيف سعادة هو ابن مدينة. ليس له «ظهر» في أسرة عشائرية من الاسر الريفية او ذات التحدر الريفي الحديث. ليس يملك عزوة تدافع عنه وتنتقم له او تغطيه وتحضنه. لذا تجده يلجأ الى الحزب والى الحي والى الطائفة. غير ان هذه الاقانيم الثلاثة لا يسعها ان تحل محل العائلة، انها لا تني تردّه الى الاقانيم الثلاثة التي تقوم عليها العقيدة الكتائبية: «الله، الوطن، العائلة» ــ وهي الطاقة المحركة للجماعة التي تريد ان تكون «حديثة».
حقيقة الأمر ان تقديس العائلة هو محرك كل القصة الفاجعة لـ«سفاح» الاشرفية. ذلك ان مقتل الابنين قد خصى المنتقم بأن صرم عملية إعادة انتاج العائلة ذاتها. من هنا فإن العنف الذي صدر عن جوزيف سعادة هو على قدر قوة إيمانه بالعائلة بما هي مؤسسة، وعلى قدر عجزه عن اعادة انتاج عائلته وإعادة انتاج نفسه بما هو رأس تلك العائلة وشيخها وقيدومها.
حقيقة الامر ان رواية سعادة أشبه بتحقيق على طريقة المآسي الاغريقية، ولكن نهايتها معكوسة. فجوزيف سعادة يتحرّى عن جريمة مثله مثل أوديب. لكن الاكتشافات المفاجئة التي تقوده اليها تحرياته، ليست اكتشافه قتلة ولده، ولا حقيقة انه هو القاتل، كما في حال أوديب. لا. ان الاكتشاف الفاجع الذي يتوصل اليه جوزيف سعادة هو عكس اكتشاف أوديب. يكتشف سعادة السفاح القاتل انه هو الضحية. عند دفن ابنه، يبلغ الرجل ذروة مأساته إذ يدرك انه «لن يكون له حفيد يحمل اسمه». وهكذا فالعائلة، وقد أخصي شيخُها وقيدومها والبطريرك فيها على هذا النحو، قد قتلت قيدومها!
لنتوقف لحظة لنلاحظ جيداً اننا بصدد مفهوم ذكوري للعائلة: العائلة هي افرادها الذكور. ذلك ان لجوزيف سعادة ابنة، تلك التي يسمّيها «صغيرتي الرائعة مايا». الا انه عندما يجدّ الجدّ، لا تدخل البنات في الحسبان. فالبنت لا تستطيع ان تعيد انتاج العائلة ولا ان تمنح اسم اسرة أبيها الى ذريتها. الا تقول الحكمة الجبلية «ابن ابنَك إلك وابن بِنتك للغريب»؟ وها نحن حرنا ودرنا وعدنا الى الغريب!
سئل سعادة اذا كان يحدث له ان يتذكر جرائمه. اجاب انه إذ تخطر الجرائم في باله، يطرد كل افكار اخرى، ويركّز فقط على ذكرى ابنيه القتيلين. للغرابة، قد يوحي الستوديو بأنه اشبه بجلسة استجواب، الا انه كان العكس تماما من قاعة المحكمة. «المتهم» هنا يذكّر «قضاته» بأنهم لا يعرفون الـ«قوانين» السارية المفعول «هناك»: «لستم تتصوّرون ما الذي بوسعهم ان يفعلوا»، يقول قاصداً المسلمين. بل ثمة اكثر من ذلك. فهذا «المتهم» المعترف بجرائمه لا يجد اي سبب يدفعه الى الندم والغفران. فهو يصرّ على ما قد فعله ويتشبّث به. «لو ان الامر يعاد الى ما كان عليه، فسوف أعيد ما فعلت»، قال ردا على سؤال مباشر في هذا الصدد، مكررا ما قد قاله اصلا في كتابه واضاف اليه «سوف اعيد ما فعلت، ولكن بفن اكبر، لاني اكتسبت خبرة». للعلم، اعطى القناص الشيعي الجواب نفسه عن السؤال ذاته (…)
هل نفعتْ الجريمة بأي شيء؟ لا حاجة للتبشير الى مؤمن. يعرف سعادة سلفا ان الجريمة «لن تعيد لي أبنائي». وماذا عن السلام؟ ليس يسعى سعادة الى السلام. ربما كان ينشد سلام النفس، كما قال، بمعنى راحة البال. مهما يكن، فالسلام هو ايضاً لن يعيد له ابناءه.
عندما قال سعادة انه سوف يعيد ارتكاب جريمته، ولكن بمزيد من الفن بعد كل ما اكتسبه من خبرة، ما الذي كان يريد قوله فعلاً؟ ألم يكن يعني انه سوف يعيد ارتكاب ما قد ارتكب تحديداً لأن ما قد ارتكب لم يؤّدِ الى اي شيء؟ تكمن مأساة سعادة في انه جرّب القانونين الاثنين، طبّق قانون الانتقام العرفي القبلي على ابرياء هم «اكباش محرقة» ــ «ذنبهم» الوحيد انهم ينتمون الى «قبيلة» القتلة. هذا من جهة. لكنه من جهة ثانية، كان له ما يندر ان يتحقق. سنحت له فرصة ان يعاقب المتهمين «الحقيقيين»، بل «المجرمين» المفترضين الحقيقيين، ونفذ فيهم حكم الاعدام. هنا، ناب سعادة عن هيئات تنفيذ القانون الجزائي الحديث واستجوب وحكم ونفّذ الحكم. ولكن لا هذا ولا ذاك روى غليله. كان انتقامه المسخ عنيفاً على نحو مضاعف، لأنه عنف عبثي، عنفٌ عنّين.

«العدوّ هو أنا»

زدْ في تغريب العدو، ينتهِ بك الامر الى استبطانه. يصير العدو في داخلك. تلك هي احدى الأواليات المراوغة للحرب الاهلية اللبنانية (…)
هكذا فالمَشاهد الاخيرة من الحرب تشبه تصوير بابلو بيكاسو للحرب الاهلية في جداريته الشهيرة «غيرنيكا» حيث تختلط ملامح الجزّار وأعضائه بملامح الضحية واعضائها، فيصعب تمييز واحدهما عن الآخر.
لننتقل دون مقدمات من بابلو بيكاسو الى… وليد جنبلاط. خلال أحلك فترات الحرب، وبمناسبة ذكراها التاسعة في ١٩٨٦، رمى جنبلاط فجأة هذه المعادلة: «صار العدو داخل كل واحد منا». هكذا أتمت الدائرة انغلاقها في هذه الرؤية التآمرية الرُهابية الى التاريخ. استبطننا «الآخر». صار القاتل في قلب قلبنا، في صميم صميمنا.
تختزل هذه العبارة الحرب الاهلية اللبنانية كلها. منطقها والمسار. من معسكرين اثنين، انتشر العنف ليغطي المجتمع كله، موغلاً في التشرذم والتفتت. حلّت «الحروب الصغيرة» (والعبارة عنوان فيلم للراحل مارون بغدادي) محل الحرب الكبرى (على افتراض أن ثمة كِبَراً ما في اي حرب)! لم يعد للحرب معسكرات ولا جبهات قتال. كل حي، كل زقاق، كل بناية، كل عائلة انقسمت على ذاتها في معسكرات وجبهات قتال وصولاً الى الوحدة التي يتفرض انها لا تتجزأ: الفرد ذاته. حتى الفرد انفصم نصفين، نصفاً يقاتل نصفاً آخر. صار الاخوة الاعداء يتقاتلون في صميم كل واحد منهم، ذروة العنف في الشخصية الفصامية: قايين وهابيل في كائن واحد.

صحيفة السفير اللبنانية
 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى