الفضاء المكاني في ‘حدائق شائكة’ لصبحي فحماوي و الرواية قابلة لتتحوّل إلى فيلم سينمائي يجمع بين التوثيق والتحليق لثرائها بالشخصيات وبنيتها الحَلقيّة وتنوّع الأنماط والنماذج البشرية ورصدها المرهف لثقافة المجتمع في طبقاته الصاعدة، وخيالها الخصب.
من الواضح غلبة الفضاء المكاني في رواية “حدائق شائكة” لصبحي فحماوي، حيث يتسع ليحتل مساحة بحجم إرم ذات العماد. ويتمدد ليصبح على طول طريق الحرير، ثم ينحسر في الفنادق، والحدائق، والصالونات، والمحال التجارية.
الفضاء المكاني في ‘حدائق شائكة’ لصبحي فحماوي
فالفصل الأول يغلب عليه الفضاء المكاني وتوابعه، وما انطوى عليه بحكم تشكّله وتطوّره وتماهيه مع المنظور المستقبلي للمنطقة كلّها. وقد غلب على ترتيب الفصول فيما بعد تداول الثنائي الرئيس. الفعل الذي تنهض به الشخصيات وميدانه؛ فعناوين الفصول تتراوح بين أسماء الشخصيات وأسماء الأماكن كما أشرت من قبل. حوادث ووقائع تتداعى على لسان الراوي. تفوح منها نكهة فلسطينية بلديّة شعبيّة عريقة تتقاطع فيها ملامح التراتب الطبيقي جامعاً بين مختلف المفارقات الصاخبة، مثال ذلك)من فقد مئات الدولارات وذلك الذي فقد عشرات القروش تفاوت طبقي يصوّر معاناة الطبقات الفقيرة .وطرق معاشهم وتجمعاتهم أيضا.من هنا كان اهتمامه بتنوّع الرموز المكانيّة والبشريّة ما بين البنوك والفنادق والحدائق والبيوت، وحديثه عن التكوينات الاجتماعية بذكر العشائر ومهنها وأصولها.
وقد اختار اسم “رمزيّة العلي” للفصل الثاني مديرة القروض في البنك وحرصه على ملازمة الأشخاص للأماكن وتماهيمهم معها لبيان موقعهم الطبقي. وفي هذا الإطار يعمد الراوي إلى الاستطراد الذي يوّضح من خلاله زيف الوجود الصهيوني،. وحينما حاولت أن أتبيّن العلاقة بين محتويات الفصل وعنوانه “رمزية العلي” كانت التأويلات التي تداعت إلى الذهن كثيرة. فأحار فيها لولا أنني أسعفت بالخاتمة التي كانت استطراداً على الموضوع. وتبيّنت لي العلاقة في وضوح لا لبس فيه؛ إذ عاد المؤلف ليعرّج على إرم ذات العماد وألهية التهجير والتوطين، فقد تاهت المعالم ولم يبق إلا الذكريات.
رموز رأسمالية وشخصيات مرموقة المكانة ذكوريّة وأنثويّة،
وتتوالى العناوين تتداولها الأسماء الفخمة للبنوك والفنادق والحدائق والمدن الصناعية العالمية الكبرى (هونغ كونغ) والقديمة (إرم ذات العماد) الحديثة بحمولتها الرمزية، وهي، في غالبيته، رموز رأسمالية واضحة الدلالة، وكذلك الشخصيات مرموقة المكانة ذكوريّة وأنثويّة، وهي تفصح من خلال أسمائها عن مكانتها وكونها نماذج اجتماعية ذات مدلولات طبقيّة (حلمي باشا الملاح وعبد الودود وفارس الغبيري والمهندس سليم عفانة وجريس زعرور ورجب الصافي ورئيس مجلس اللوردات) من الرجال ورمزية العلي وكريستين مارتن وتلك التي تحدث عنها في الفصل الأخير (اجتماع مع امرأتي).
في الفصل المعنون ب”بنك الرخاء الكبير” اتسعت دائرة المكان الرئيس في الرواية الذي يؤطر فضاءاتها كلّها؛ فإذا بها لا تقتصر على اللاجئين الفلسطينيين بل تضم كل الذين رزؤوا بالظلم والعدوان في المنطقة كلّها :عراقيّين وسوريّين ومن عرفوا ب”البدون” فهي الرمز الكبير الذي يحدد مصير هؤلاء المنكوبين حيث النفي المطلق وضياع الهوية وامّحاء الكينونة، والمفارقة التي تميّز الحبكة في الرواية تتمثل في الانتقالات والاستطرادات بين حالتين متناقضتين ؛ فهو على سبيل المثال ينتقل من حديث “جان روك” الذي يملك ستاً وعشرين شاحنة حاوية ضخمة مكيّفة تجوب أسواق أوروبا كلّها لتوصل النباتات والزهور إلى العملاء إلى حديث العم ياسين الذي كان يتمدد على جنبيّة مفرودة على حصيرة واسعة في فناء بيت أحد الأقارب في مخيم إرم ذات العماد الذي لا يعرف من الزهور إلا الحنّون البري الأحمر، وهنا يقذف الراوي بالفكرة الرئيسة مجرّدة فيقول على لسانه في تعليقه على حالتة مقارنة ب”جاك روك”:
“وهل أبقى رأس المال المتوحِّش قيمة للمعلم الذي كان كنزاً تحفظه القرية فأصبح ملطشة للذي لا يسوى ولا يسوى”
المرأة ذروة المكانة الاجتماعية
وهو يقدّم، في إطار هذا العنوان، رؤيته لما أفضت إليه تلك الطبقة في ذلك المجتمع الذي تتّسع فيه الفوارق بين الأغنياء والفقراء. وكيف تسنّمت فيه المرأة ذروة المكانة الاجتماعية الى الدّرجة التي يعرِّف فيها الوزير بنفسه لعامل البلاط بأنه “زوج السيدة”. وعبارة ” النساء قويات فلا تخف عليهن” وهذه العبارة في هذا السياق كان لها مغزاها .
والنزعة الانتقادية واضحة تماماً من أول الرواية إلى آخرها؛ بل هي تضجُّ بالسخريَة أحيانا : “المخزي أن الحفريات في بلاد العرب لا يقوم بها سوى علماء الآثار الغربيين، ذلك لأن علماءنا يفترض أنهم مخصيّون وغير قادرين على إخصاب تاريخنا الذي كان عظيماً”.
من الملاحظ أن لكلّ فصلٍ استقلاله النسبي الذي ينفرد بأحداثه. ويقدم مشاهد مستقلّة تنطوي على ذات الرؤية الكاشفة بل الفاضحة أحياناً. وتبدو كما لو كانت خلاصة بحث مستقل. أو لحظة تنوير تفضي إليها أحداث الفصل. فيما يشبه تلك التي تنتهي بها القصة القصيرة حيث تضيء النهاية المغزى وتنكشف الأزمة. ففي الفصل الأول مثلاً انتهى الفصل برحيل رؤوف المصري مهزوماً أمام زوجته نائلة الحلبي . وفي الفصل الثاني يقول الراوي. “وهنا فهمت أن القوي هو الذي يخطط التاريخ كما يشاء” وهكذا توالت تدفقات المحتلين الصهاينة على بلادنا.
وهكذا في مختلف الفصول ؛ ففي الفصل المعنون ب “حلمي باشا الملاح”. ينتهي إلى القول” لا شك أن العالم يتغيّر واو المهندس سليم عفانة وجريس زعر ابن الخطيئة والكرة الأرضية تدور. وفي الفصل “هونج كونغ”. تكتظ التعليقات بمقولات طويلة لأنبياء وأعلام كبار كقول يسوع المسيح “إن الإنسان بن الخطيئة ولأخناتون. وغاندي ونيفرتيتي والضابط الفرنسي جيور جيس والشاعر بوشكين وبلزاك. وأنهاها كالمعتاد بنهاية مأساوية تضيء رؤيته التي يريد أن يقدمها من خلال هذا الفصل، وهكذا
الخطاب السياسي
يغلب في بعض الفصول الخطاب السياسي استنتاجا وتعليقاً وبوحاً بالمعلومات والأسرار. كقوله في الفصل الوحيد المعنون بغير االأسماء الأعلام (لعنة الكلب). في حديثه عن الشخصية المحورية في هذا الفصل. “كريستين مارتن” التي وصفها بأنها تقوم بنشاطات تجسُّسيّة “. وهي من الدبلوماسيات المعتبرات” كما يصفها بأنها تنخر الجسد العربي شبراً شبر. على حد تعبيره، واللافت أن الكاتب في استطراداته العفويّة التي لم يكن يخطط لها. كما سمعت منه في وصفه لكتاباته الروائية، يستحضر التاريخ العربي في لحظات التأزّم والسقوط الي تستدعيه أو يقتضيه السياق. فالمرأة الصبية “إيزابيلا” قنصل العلاقات العامة في السفارة الإسبانية متعصبة، كما يبدو من اسمها، لإيزابيلا ملكة القشتاليين الذين طحنوا آخر معاقل العرب في الأندلس، وإن الاسم إيزابيل (وهذه مفارقة تاريخية) يستثمرها الكاتب ليؤكد على الانتماء الوطني فيذكر أنه اسم أميرة الكنعانيين العرب ابنة الكنعاني إيتو بعل ملك صور.
تأتي بعض مقارباته السياسية في صور فنية وملامح أسطورية استطرادا في آخر الفصل، كما هي الحال في الفصل المعنون بـ”هونج كونغ” فبعد أن ينتهي إلى ذكر وفاة الحاج رائف الخوري أحد زبائنه الذي قام بإنشاء حديقة منزله مبيّنا مدى إعجابه بهذه الحديقة وكشف عن طبيعته ونزوعه إلى استراق المتعة وفلسفته في الحياة،
نجده يتحدث عن الأطباق الطائرة وانشغال مواقع التواصل الاجتماعي بها معرّجا على علاقة هذه الأطباق بالتاريخ، مستطرداً إلى الاستشهاد بالآية القرآنية الكريمة “اهبطوا بعضكم لبعض عدو” ثم ينتقل إلى ما أفضى به المحللون السياسيون ” ربما كان مصدر هذه الأطباق الغريبة هو إيران، وهي تقترب من المكان استعدادا للانقضاض منها على العدو الصهيوني الذي يتوسّع بقتل الآخر وممارسة التدمير والتهديم يوميا كتفشي السرطان في الجسم العربي، ليس هذا فحسب ؛ بل ذهب إلى رأي آخرين يعضدون وجهة النظر هذه، حيث زعموا أن الفوم ظنوا أن هؤلاء الإيرانيين سيقومون بسبي الجواسيس على نحو ما فعل نبوخذ نصر في العملاء الكنعانيين الذين اقترفوا آثام التجسس على المقاومين كما فعل يهوذا الإسخريوطي” الذي سلم السيد المسيح .
الرحلة إلى هونج كونغ،
كانت مجمل أحداث الفصل المهمة تدور حول الرحلة إلى هونج كونغ، حيث اهتم السارد بعلاقة الصين باليابان حيث تعاظمت النزعة الاستعمارية اليابانية وانشغال القائد الصيني كاي شيك بمحاربة الشيوعيين متجاهلاً وجود الاستعمار الياباني وكيف انتهت الحرب بين الصينين الذين انتصروا (في نهاية المطاف عام 1945) متسائلا عن عدم اقتداء الفلسطينيين بذلك وتحقيق وحدتهم الوطنية كما فعل الصينيون، وهذه الإشارة ضمن مؤشرات أخرى متعددة تقارن الوضع الفلسطيني بغيره، وقد انتهت إلى تلك الخاتمة التي أماطت اللثام عن وجهة نظر سياسية، ومن الواضح أن الكاتب حشد كمّاً معرفيّاً كبيراً من الناحية التاريخية والحضارية والأثرية في هذه الرواية حيث أتاحت له طبيعة الحبكة المرنة التي اختارها ذلك ليرسّخ رؤيته السياسية استنادا إلى القاعدة التي تقول “إن التراكم الكمي يفضي إلى تحوّل كيفي”.
ومثل هذه الرواية تستلزم دراسة معمّقة لغناها بالرؤى والأفكار التي تنبع من جمالياتها وبرنامجها السردي. كما ولغتها وإبحاره في لجّة بشرية تبلورت حول أبعاد الرؤية أو المنظور الروائي في عمقه وخصوبته . كما وملامسته لنبض المرحلة وغوصه في عمق الواقع واستقرائها الممتد في عمق الحاضر واستشامته لبروق المستقبل .
ولعله من الضرورة بمكان أن أشير إلى قابلية الرواية لآن تتحوّل إلى فيلم سينمائي .يجمع بين التوثيق والتحليق أيضا. فالفصول يمكن أن تتحول إلى سلسلة من السيناريوهات بشيء من المعالجة الفنية التي تستثمر إمكانات المونتاج السينمائي لثرائها بالشخصيات. كما وبنيتها الحَلقيّة وتنوّع الأنماط والنماذج البشرية ورصدها المرهف لثقافة المجتمع في طبقاته الصاعدة، وخيالها الخصب الذي استثمر التاريخ والأسطورة والسيرة والوصف المستقصي واللماح، والحراك الخارجي والداخلي وتنوّع البيئات والأمكنة والتمركز في بؤرة زمنية وتعدّد الأصوات والجمع بين التراكم الكمي والنمو العضوي .
إننا أمام عمل روائي متميّز يستحق الوقوف عنده مليا في دراسة أعمق وأبعد مدى ومن فضاء مكاني .
ميدل إيست أونلاين