نوافذ

الكمامات

الكمامات:

عندما استمعت إلى محمود درويش وهو يلقي قصيدته في مسرح الحمراء بدمشق… رسخت في ذهني الوجداني عبارة: “نأتي إلى بيروت… كي نأتي إلى بيروت” هذه الفكرة التي عبرت عن عجز الشاعرعن تحديد حقيقي لأسباب تعلق وشوق الفلسطيني إلى بيروت. إن مثل هذا التعبير هو مديح الأميرة التي يكفي ذكراسمها لتكون هدفاً للمديح.

في الجزائر أراد الشاعر السوري نزيه أبو عفش، أن يحصل على فيزا إلى فرنسا. فذهب إلى السفارة الفرنسية، وتقدم بطلب الفيزا ولكن القانون أن يحصل عليها من سورية كمواطن سوري ، غير مقيم في الجزائر (كان هناك مهرجان شعر). فأصرّ نزيه أن يقابل السفير… فقابله الملحق الثقافي. وسأله: لماذا تريد الفيزا؟ فقرأ له نزيه هذا المقطع من محمود درويش “نأتي إلى بيروت… كي نأتي إلى بيروت”. مضيفاً شرحه للفكرة. وخاتماً بجملة: “وأنا سأذهب إلى باريس كي أذهب إلى باريس”. وحصل على الفيزا.

هناك مدن، جلالها وعظمتها آتيان من كون المدينة عاصمة ثقافة، وموطن للنور، مخزن ذاكرة لتاريخ مؤثر في عالم البشرية، معرض جمال للطبيعة والفنون والآثار، ميدان اختبارات للحرية والتعدد، بيروت واحدة من هذه العواصم. وإحدى أهم علامات جمالها ليس الطبيعة ، وهي ساحرة ، وإنما الحرية التي كانت تجعل بيروت منارة لعواصم العرب، ومفكري العرب، وكتاب وشعراء العرب.

بيروت كانت ملجأ للهاربين من ظلم العواصم. بيروت كانت مكاناً رحباً لتلاقي الأفكار، والاختلاف. بيروت كانت وطن الذين لا وطن لهم، وصوت الذين لا صوت لهم.

ولكن…

ثمة ظاهرة غريبة من نوعها: هكذا عواصم. هكذا أوطان يأتي من يحطمها. وتنقلب كل مزاياها ضدها: الاختلاف يؤدي للخلاف، والتنوع يؤدي للتشرذم، والأفكار تصبح غذاء للمتاريس، والمكان الرحب يصبح كانتوناً، والوافدون يصبحون أطرافاً في النزاعات ووقوداً لها.

وككل سيدة تعرضت للأذى… صارت تجفل، كلما مدت يدها لمصافحة الغرباء، تتفقد أصابعها. صارت مدينة خوف.

قبل عدة سنوات ذهبت الى  بيروت، وكانت غريبة عن نفسها تفتك بهذه المدينة الجميلة… كانت مكب نفايات . ومن اللحظة الأولى كان ينبغي التوجه إلى اول صيدلية لشراء كمامة .ثم ذهبت الى المقهى ، والتقيت بأصدقاء، وعرفت القليل عن مشكلة الزبالة، وعن نتائج بقاء مشكلة الزبالة. وعلمت بأبحاث أخرى عن “فقه الزبالة” و “مافيا الزبالة” . لكن الأهم ليس هذه الأكوام ومشهدها المخيف، ورائحتها القاتلة ، وإنما وجود شيء اسمه “زبالة السياسة وسياسة الزبالة”

وبعد عدد من السنوات جاءت السيدة كورونا لتصبح البطولة لكمامات أخرى، للوقاية من روائح نفايات أخرى …

وفي المشهد الهزلي … جرى تكميم الأفواه .

بوابة الشرق الأوسط الجديدة

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى