نوافذ

الوهيبي…الراوي البصري للألم

عادل محمود

الوهيبي…الراوي البصري للألم قال الاستاذ، بعد أن رأى ولداً يتعرق بشدة، وهو يرسم خريطة العالم: لماذا أنت متعرق إلى هذه الدرجة؟ فقال محمد: لقد وصلت إلى خط الاستواء يا أستاذ !
______________________________________________

عندما قرر الفنان التشكيلي الفلسطيني محمد الوهيبي…السفر إلى ألمانيا متزوجاً من الطبيبة السورية الألمانية التي ستمنحه جنسيتها الألمانية…خطر لي أن أي جلسة مع محمد هي الأخيرة في سورية، ريثما يمتطي، كراعي غنم في طبريا ، الطائرة الذاهبة إلى برلين.

كان الوهيبي يودعنا فعلاً، وكان أسفه مخفياً، ومعاناته من هذا الاقتلاع الجذري، صامتة. فهو لم يستطع أن ينسى طبريا، مسقط رأسه، كما لم يستطع أن ينسى مخيم اليرموك ـ وطن إبداعه الأول. وها هو يحمل لا شيء معه سوى الذاكرة، والتذكرة ذهاباً فقط.

الوهيبي يبدو كشاعر رعوي يقلم أغصان الشيح لتكون ملائمة لنمو البراعم من أجل قطيع ماعزه الجبلي الذي ساعده على اكتشاف هذه الكمية من معالم بلاد غادرها بلا عودة.

عندما كنا نودعه في دمشق كان يرسم بمشرط الجراحة العينية الذي أعطته إياه الدكتورة “ريما” وكان مندهشاً من قدرة المشرط وهو في الحقيقة مثل أية أداة حادة، ولكن الوهيبي يغيّر دهشته من وظيفة الأشياء. وذات مساء كتبت له هذه الكلمات : “أنت شاعر البصريات. راعي ماعز سليمان، في الجليل. مغني الناي في الثقب الأخير من هواء الحزان. وأنت تدير وجهك للمدينة وتدير لك المدينة لك ظهرها. خيّم حيث شئت، فوطن اللوحة واسع وسخي. فيما البلاد البعيدة تمعن في أسفارها نحو ماض لا يعود”. أظن أنه كاد يصرخ من فرحه. فيقول لنا بطريقته الطفولية انظروا…تمعنوا كيف يراني شاعر جميل، صديقي الجميل. وفي كل جملة حفاوة بالحياة كان الوهيبي يسجل عجزه عن ارتكاب المديح المحب فيكتفي بهذه الكلمه : جميل …جميل. في الزيارة التالية كانت هذه الكلمات محفورة في اللوحة.

عندما سمعت بخبر موته لم استغرب فعلاً. لأنه ذهب من هنا، من دمشق ميتاً بالمعنى المجازي. فبيته في مخيم اليرموك حطام بكل ذخائر ماضيه وعلامات حياته وأسرته في كل ركن، غدت كلها تحت الأنقاض. والمخيم نفسه لم يعد فضاء لشيء بل مدينة صغيرة من حرب عالمية لم تبق على شيء. لقد أصبح سيد الحياة (مخيم اليرموك) أصبح سيد الموتى. وكل من غادره والكل غادروه…لم يحلموا بعودة سريعة إليه، كما كانت الأحلام أيام الاقتلاع الفلسطيني الأول والثاني.

ذات يوم قال الكاتب الجزائري، وهو مريض في فرنسا، “أعيدوني إلى قسنطينة. لا توجد سماء في أي مكان آخر”.

وكتب أحدهم: ” الحياة بدون مخيم اليرموك…أرملة”.

أما من تذكر من الطفولة شيئاً فيقول: “هنا توجد طابة مثقوبة من زمن الطفولة، مبللة بالماء، هي من لا ينسانا”.

وحين هممت بكتابة شيء عن الوهيبي تذكرت ما قاله هنري ميللر: “إنني لا أتحمس إلا لمسقط رأسي. أنا مولع بالحي الرابع عشر في بروكلين. بقية البلاد مجرد فكرة”.

كان محمود درويش يقول عن جده بعد اللجوء الأول إلى لبنان :” كان يخشى أن تصبح عظامه لاجئة” أي أن يصبح دفنه في الوطن مطلباً أخيراً.

محمد الوهيبي ممكن تسميته “الراوي البصري” الذي يرى المدينة وهي ، في مشهدية الخاسر المعماري، تتوجع من شيء ما، ربما الوحشية الموجودة في لون الغياب الافتراضي للبشر.

عندما شاهدت لوحة “معلولا” للوهيبي بعد اجتياح المدينة الأجمل في مسيحية التاريخ…قلت إن رسامها أنقص وزنه النوعي ليليق بقبره.

ثمة مكان كأنه مبنى فلسطيني مقدس بقباب فقيرة. ثمة شجرة وإمرأة تدير ظهرها للعالم وكأنما تصلي، لبقاء هذا السكون الترابي الحزين.

لوحة معلولا تشبه غياب هذا الفنان الذي افتقد المكان، الفنان النموذجي لموت معلن ومؤكد قبل حدوث الوفاة…ذلك لأن الاقتلاع هو العملية الأكثر إيلاماً في تاريخ البشرية، والأقرب إلى كونها أداة موت !

بوابة الشرق الاوسط الجديدة 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى