السيرة الذاتيّة لأمين الجميّل: عندما يصبح الارتهان للخارج «مقاومة» [5]

 

لا يزال الحديث هنا عن سيرة أمين الجميّل الذاتيّة، والتي صدرت حديثاً بعنوان «الرئاسة المُقاوِمة: مذكّرات». يعيبُ عليّ بعض الأصدقاء والقرّاء بذل كلّ هذا الجهد (والمساحة الورقيّة) في تفنيد ودحض السرديّة الانعزاليّة في كتاب الجميّل. لكن لم يعد سائداً في لبنان إلّا سرديّة انعزاليّة، وباتت هي التاريخ الرسمي المُعتمد للحرب الأهليّة، تردّدها حتى الأطراف المتصارعة. وقد تصبح المنهج المُقرّر في الدراسة لو تركناها على غاربها. وقادة «منظمة التحرير» تركوا لبنان، وليس هناك في الجالية الفلسطينيّة المغلوب على أمرها من يريد الدخول في سجالات مع أحد، كما أنّ قادة الحركة الوطنيّة المعتزلين المترهّلين هم إمّا انضمّوا إلى صفّ النظام السعودي، أو هم صمتوا بالكامل.

يزيّف أمين طبيعة لقاء بشير الأخير في نهاريا مع مناحيم بيغن (وكلّ الإعلام اللبناني بات واقعاً ضحيّة تزييف الرواية الانعزاليّة عن اللقاء): بشير الجميّل لم يدخل في شجار مع بيغن، ولم يكن هذا اجتماعاً. بيغن استدعى الجميّل وعامله بفظاظة، بعدما كان الأخير يعتقد أنهم سيتعاملون معه في تل أبيب كرئيس دولة محترم، متناسياً أنّهم هم نصّبوه رئيساً بالقوّة المسلّحة. بشير لا يختلف عن مصطفى دودين في روابط القرى، أو عن سعد حدّاد. وفي الاجتماع، تعرّض لتوبيخ وتقريع وخرجَ من الاجتماع ذليلاً مُهاناً يبكي بسبب أنّ راعيه بيغن عامله كالأطفال. يُروى أنّه بكى على كتف والده قائلاً: عاملني معاملة فظّة. لكنّ شارون الذي يعترف أنّه كان صاحب فكرة ترشيح بشير، عادَ إلى لبنان، وبعد تناول أطباق أعدّتها له سولانج الجميّل (التي بحسب مذكّرات شارون كانت تتخصّص في إعدادها له)، وكانت عبارة عن خروف محشي وكبّة مشويّة وكبّة بالصينيّة والكنافة، بالإضافة إلى أطباق أجنبيّة،وسعى إلى مراضاة الجميّل وطبعاً رضي الجميل (جورج فريحة، «مع بشير»، ص. 215). ويزعم أمين أنّ بشير عارضَ بصورة «قاطعة» (ص. 77) مشاركة «القوات اللبنانيّة» في «تنظيف المخيّمات» بعد الاجتياح (والتنظيف في مصطلحات النازيّة الألمانيّة واللبنانيّة لا تعني إلّا عمليّات إبادة جماعيّة). لا، كان بشير كما يظهر في المحاضر التي نشرها جورج فريحة في كتابه «مع بشير»، وهي تتناقض مع محاضر استشهدَ بها أمين وإن لم ينشرها كي نحكم، مطيعاً وموافقاً على كلّ الخطط الإسرائيليّة عن المخيّمات، وحتى عن الوجود الإعلامي لـ«منظمة التحرير» في لبنان. لكنّ هذا أسلوب معهود في الكتاب الخالي من المصداقيّة. محاضر فريحة تقول إنّ شارون عاد في الحديث إلى موضوع مخيّمات صبرا وشاتيلا، وقال لبشير، آمراً: «ستذهب قوّاتنا وراء جيشك إلى المدينة الرياضيّة وصبرا وشاتيلا؟ فأجاب الجميّل: نعم. إذا شئتَ التحدّث عن هذه التحرّكات فعليكَ أن تقول إنّ الجيش اللبناني هو الذي دخل هذه الأماكن، وإنّ القوّات الإسرائيليّة ما جاءت إلّا بعده لتأخذ علماً بأنّ كلّ شيء جرى على ما يرام. في وسعكم أن تأتوا بعدنا لتروا أنّ العمليّات تُنفَّذ على الوجه الملائم. لا يجوز أن يظنّ أحد أنّكم تنسّقون مع الجيش اللبناني. نسّقوا ما شئتم مع «هورس» (فادي أفرام) وميشال عون (ما غيره) وأمير دروري… إننا نقوم بعمليّة «سلامي». ردَّ شارون: «إذاً، فالوقت غير مناسب للقيام الآن بأعمال استعراضيّة في بيروت الغربيّة؟». أجابه الجميّل: «ليست هذه المنطقة آمنة. قد يتعرّض جنودكم للخطف والقتل… سيحصل تنسيق بين إيلي حبيقة وجوني عبده على أرفع مستوى. وهما ينسّقان مع جماعتك على مستوى رفيع أيضاً» (ص. 222). حتى في قمع حريّة التعبير للشعب الفلسطيني في لبنان، فإنّ بشير أبدى تأييداً لقرار العدو بقمع تلك الأصوات. يقول شارون للجميّل – بعدما ذكّره بأنّ تنصيبه رئيساً كان فكرته – بصفاقة: «إذا تلقّينا معلومات عن تحرّك أحد مراكز الفلسطينيّين، كمركز شفيق الحوت، مثلاً، أو غيره، وتدخّل مغاويرنا لقمعه، فما هو الموقف الذي ستتخذونه من هذا الأمر؟». أجابه بشير: «إفعلوا ما تسمح به إمكاناتكم» (ص. 223). تحوّل هذا الحوار في كتاب الجميّل إلى رفض قاطع من بشير لمشاركة قوّات في المجازر المُخطّط لها مُسبقاً في المخيّمات (ويغفل أمين أنّ بشير كان ينوي ضمّ «القوات اللبنانيّة» إلى الجيش اللبناني).

تتهاوى سرديّة تتهاوى بسرعة، إذ إنّه يزعم بأنّ بشير بعدما تلقّى التقريع والإهانة من بيغن (هل كان ذلك مثل تلقّي سعد الحريري الإهانات في الرياض بعد ضربه وصفعه وركله؟ وما حكاية هذا الوطن «العاجق الكون» في أنّ زعماءه يتلقّون التقريع من حكّام أجانب وهو لا يزال يحتفل بعيد استقلاله – الصوري – سنة بعد سنة؟)، فإنه رفض أوامر شارون (الذي نصّبه رئيساً) ثم اشتكى أمرَه لوليّ أمره المباشر في لبنان، أي «ماندي»، ضابط الاستخبارات الإسرائيليّة المكلّف العلاقات مع «القوات اللبنانيّة» (ص. 78) وكلّ هذا في رواية الجميّل «المقاوِم» نفسه. لكنّ رواية أمين تكشف مدى الأكاذيب التي رواها جوني عبده (خصوصاً في سلسلة مقابلات «شاهد على العصر» على محطة «الجزيرة») لا سيّما في معرض نفيه أنّه لم يلتقِ بإسرائيليّين وأنّه استضاف شارون – باعترافه – في منزله، لكن من دون أن يلتقيه. نحن نعلم الآن أنّ عبده هذا زار شارون في مزرعته في النقب المحتل، وأمين الجميل يفضح الكثير عن وجود عبده في كلّ الاجتماعات التنسيقيّة بين جيش الاحتلال الإسرائيلي وأدواته في لبنان. والمراجع العبريّة تقول عن جوني عبده (هل تلقّى وساماً من الجمهوريّة اللبنانيّة أم ليس بعد؟) إنّه كان يعيب على قادة الجيش الإسرائيلي لينَهم في قصف بيروت الغربيّة في صيف عام 1982. هذا الرجل ذاته الذي كان رفيق الحريري يريده رئيساً لجمهوريّة لبنان (تحدّث محمد حسنين هيكل عن ذلك في أكثر من مناسبة). تختلف رواية أمين عن رواية جورج فريحة في أنّ شارون كان مثل بيغن يقرّع بشير الجميّل ويوبّخه، مثلما كان يفعل مناحيم بيغن. هذا يقولون عنه إنّه كان يدافع عن سيادة لبنان. يقول أمين إنّ بشير الجميّل لم يقم بـ«تنظيف» المخيّمات (في إشارة إلى مجازر صبرا وشاتيلا)، لكنّ ذلك يعود لسبب بسيط: أنّه لم يُتح له ذلك، وكانت هناك خطط موضوعة تنتظر تسلّم بشير مهام الرئاسة بالتنسيق مع جيش الاحتلال الذي انتخبه.

وفي الوقت الذي كان أمين قد نفى فيه أن تكون قد شابت حالة من العداء والصراع علاقته مع بشير في سنوات الحرب، فإنّه يعود ليعترف بأنّ المقرّبين من بشير ناصبوه العداء بعد تنصيبه رئيساً (ص. 99). لكن إذا كانت علاقتك مع بشير قد اتّسمت بالتفاهم والمحبّة والود، فلماذا يناصبك المقرّبون منه العداء؟ كان يجب أن يستمرّوا في مسار التفاهم الذي تكلّمتَ عنه. أنت تقول إنّ حفلة العشاء الأسبوعي الذي جمعكم مع أبيكم كان كافياً لإحلال التفاهم، بالرغم من مرور «غيمات صيف» في العلاقة كما تقول، وإن أضفتَ أنّ التنافس بينكما لم يكن إلّا على خدمة لبنان. وهل أضرّ لبنان وأسال دماء بنيه أكثر من تنطّح حزب «الكتائب اللبنانيّة» لـ«خدمة لبنان»؟ لو أنّ هذا الحزب، وإفرازاته التنظيميّة تتوقّف مرّة واحدة، وإلى الأبد، عن «خدمة لبنان» (وهل كان التمويل الإسرائيلي وغير الإسرائيلي لحزب «الكتائب» في الانتخابات منذ الخمسينيّات من أجل «خدمة لبنان»؟)

ويكون أمين يحدّثك عن بشير وزواريب بكفيّا، وإذ به فجأة يستشهد من دون مناسبة أو سبب بقول لهنري برغسون (ص. 99). هنا، تتيقّن أنّ أمين كان يضع كتاب الاستشهادات – أو واحداً منها – الذي يستعين به رجال الأعمال والساسة المنعدمو الثقافة العامة، وذلك من أجل إضفاء طابع عميق ومثّقف على خطبهم وكتاباتهم. ما علاقة برغسون في كتابه «التطوّر الخلّاق» بعلاقتك مع أخيك بشير؟ وهل هناك رأي لشيشرون أو أرسطو في مسألة انتخابات المتن وفوز المرشّح العوني ضدّك؟

وعندما يتحدّث أمين الجميّل عن فيليب حبيب (يسمّيه «فيل» بسبب العلاقة الوثيقة)، فإنّه يستشهد برأيٍ معادٍ للسامية لديفيد كيمحي (المسؤول الموسادي السابق الذي انتدبته بلاده لتمثيلها في مفاوضات 17 أيّار – إمعاناً في إذلال لبنان – فيما اختارت هي اسم المفاوض اللبناني، أنطوان فتّال، بسبب كتابه الاستشراقي المعادي للمسلمين والذي صدر بالفرنسيّة) ويقول عن قوله إنه بليغ – مع أنه معادٍ للسامية (ص. 101). وتقول المراجع الإسرائيليّة عن حبيب هذا، إنّه في المفاضات مع إسرائيل كان يقول لمناحيم بيغن إنّه صهيوني من أيامه في بروكلين، في نيويورك. (ومرّة سألتُ حبيب بعد تقاعده إثر إلقائه محاضرة في جامعة جورجتاون، في أواخر الثمانينيّات، عن حقيقة قوله لبيغن إنّه صهيوني وذكرت اسم الكتاب الإسرائيلي الذي يذكر ذلك، فقال لي إنّ ذلك غير صحيح، وإنّ الكتاب يتضمّن مغالطات أخرى).

ومع أنّ الجميّل غير معروف بروح النكتة أو خفّة الظلّ، فهناك بعض الطرائف والبدائع في الكتاب. هذا أمين مثلاً يقول لنا: «أردتُ، منذ بداية عهدي، تحصين الإدارة ضدّ فيروس الفساد، والحؤول دون إهدار المال العام، يقيناً منّي أنّ هذه الصفقات تفتح عادة شهيّة السماسرة» (ص. 101). ليس عهد الجميّل هو الوحيد الفاسد: معظم العهود الرئاسيّة كانت فاسدة، من عهد بشارة الخوري إلى شمعون (وشمعون قد يكون من أكثر الرؤساء الذين استعملوا صفتهم الرئاسيّة بعد خروجهم من الحكم لعقد صفات وسمسرات، بما فيها صفقات الزجاج عندما كان يشغل وزارة الداخليّة في حرب السنتَيْن)، وعهد شارل الحلو وخصوصاً عهد سليمان فرنجيّة، وصفقات الوزارات التي شغلها طوني فرنجيّة، إلى العهود الأخرى. لكنّ عهد الجميّل شهد اتساع الفساد على نطاق واسع بالإضافة إلى بداية انهيار العملة اللبنانيّة وخروج رؤوس أموال من لبنان. وينسى البعض أنّ الحملة العنصريّة ضدّ الفلسطينيّين في لبنان في عهد الجميّل، أدّت إلى خسارة أموال طائلة من المصارف اللبنانيّة. وإصرار الجميّل على تسليحٍ هائل للجيش اللبناني (المنقسم والفئوي والذي لم يكن إلّا اليد الضاربة بيد التحالف الأميركي – الإسرائيلي وذراع الجميّل الميليشياوي في الحرب الأهليّة)، زاد من منسوب الهدر والفساد. وفساد صفقة البوما لن يمحوها صكّ براءة في تصريح من إيلي فرزلي.

ونكتشف في الكتاب: كما أنّ جو بادين هو الصديق الحميم لوليد جنبلاط (ألم يلتقِ بجنبلاط مرتَيْن، كما التقى بنائلة معوّض؟ ألا يثبت ذلك صداقة حميمة؟) فإنّ فرانسوا ميتران هو صديق حميم للجميّل، مع أنّ الرجل على ما نُقل عنه في حينه لم يكن مُعجباً بصديقه اللبناني. لكنّ الجميّل يقدّم القرائن هنا، إذ يقول إنّ ميتران دعاه إلى العشاء في «شقّة موضوعة في تصرّف الرئاسة»، حيث لاقى صديقه خفية برفقة خليلته وابنته التي لم تكن معروفة يومها. ضمنَ أمين قبوله «ضمن الحلقة الحميمة لهذا الثنائي كعلامة ثقة» (ص. 106). لكنّ فرحة أمين لم تتم إذ أنّ السائق أنزله من السيارة بعد منتصف الليل في باريس، تاركاً إياه من دون أوراق ثبوتيّة أو نقود. لكنّه وقع على خفير فقال له: «أنا أمين الجميّل، رئيس جمهوريّة لبنان، وثمّة من ينتظرني في قصر ماريني». كادت هذه الحادثة أن تشعل الحرب العالميّة الثالثة. «الله ستر»، كما يقول المؤمنون والمؤمنات.

ويُفرط الجميّل في الثناء على شفيق الوزّان، واحد من أضعف رؤساء الوزراء في تاريخ لبنان، ووصوله إلى سدّة رئاسة الوزراء بعد سليم الحصّ، كان لسبب بسيط: أنّ الحصّ لم يرتضِ أن يكون شاهد زور على القرارات الطائفيّة والسياسية المنحازة للثلاثي سركيس – بطرس – عبده، وكان يعترض عليها في مجلس الوزراء. أراد سركيس بعدما حزم أمره، وبالتفاهم مع الحكومة الأميركيّة والسعوديّة، في دعم ترشيح بشير الجميّل رئيساً، اختيار رئيس للوزراء مطواعاً، ينفّذ ولا يعترض. ولم يكن هناك أضعف من الوزّان. وكان يساعد في ذلك السخاء المالي على المطيعين من قبل أطراف داخليّة وخارجيّة كانت تسعى لإيصال الجميّل إلى الرئاسة. وكان الفريق الانعزالي برمّته يكنّ كلّ الاحتقار لشفيق الوزان ويتعامل معه بفوقيّة طائفيّة. وقبل ترشّح الجميّل في مطلع عام 1982، طلب الجميل أن يجري معه عرفات حجازي مقابلة تلفزيونيّة (مع المحطة التابعة للدولة يومها) كي يُبشّر فيها بالاجتياح الإسرائيلي (هو لم يستعمل في المقابلة صفة الاجتياح لكن تحدّث عن «القرار»، وكان حجازي يلحّ عليه كي يفصح أكثر في تعريف «القرار» لكنّه لم يستجب). وبعد المقابلة، طلب بشير الجميّل من حجازي أن ينقل له رسالة لشفيق الوزّان وكانت الرسالة عبارة عن شتائم وتهديدات سوقيّة وبذيئة – وقد أخبرني عرفات حجازي بذلك بعد سنوات. ونقل حجازي الرسالة للوزّان الذي اعتبرها بمثابة تهديد شخصي له. لكنّ أمين يستعين بيوميّاته كي يقصّ لنا كيف أنّ الوزّان كان يجيب عن الجميّل في الاجتماعات مع المسؤولين العرب كي يُجنّب الجميّل أيّ إحراج (ص. 118). المشكلة أنني سألت الوزّان في منتصف الثمانينيّات (بعد خروجه من السراي) – وقد رويتُ ذلك في حلقة سابقة – عن زعم الجميّل تعاونه معه وإشراكه في القرار، فنفى ذلك نفياً قاطعاً وقال بلجهة انكسار: لم أكن أعلم بما يُدار ولم يشركوني بأيٍّ من القرارات.

يتحدّث الجميل في الكتاب عن الجيوش الأجنبيّة ويفصّلها على أنّها تضمّ السوريّين والإسرائيليّين والفلسطينيّين (ص. 118). أي أنّه كان – على طريقة الدعاية الصهيونيّة – يعتبر كلّ الشعب الفلسطيني في لبنان بمثابة جيش مثل جيش الاحتلال الإسرائيلي. ويعترف الجميّل بأنّ شارون كان يستعين بأدواته من الأحزاب والسياسيّين اللبنانيّين من أجل تحقيق تنازلات إضافيّة من الحكومة اللبنانيّة. لكنّ تخريجة الجميّل لقصّة «وثيقة شارون» في كانون الأوّل/ ديسمبر 1982 ليست مقنعة البتّة. و«وثيقة شارون» هي اتّفاق سرّي توصّل إليه واحد من أقرب مستشاري الجميّل في عهده، سامي مارون (والذي ارتبط اسمه بالكثير من صفقات الفساد في العهد) مع أرييل شارون، والاتفاق قدّم من التنازلات أكثر ممّا ورد في اتفاقيّة الخضوع المعروفة بـ«17 أيّار». وقدّمت حكومة لبنان الكثير من التنازلات في الاتفاق إلى درجة أنّ فيليب حبيب غضب شديد الغضب من الجميّل، وبذل هذا الأخير جهداً لتهدئته وأعدّت جويس الجميّل طبق مجدّرة لحبيب، وكان يحبّها «كثيراً» (ص. 120). لكنّ زعم الجميّل أنّ سامي مارون أقدم من تلقاء نفسه على عقد اتفاق مع وزير الحرب الإسرائيلي من دون علم أو مشورة الجميّل، لا يمكن أن يقنع من عاصر تلك الفترة لأنّ مارون كان من أقرب مستشاري الجميّل. هل مِنَ المعقول أنّ مارون كان يمكن أن يقوم بتلك المفاوضات مع الوزير الإسرائيلي النافذ من دون إعلام الجميّل، خصوصاً أنّ شارون عقَدَ مؤتمراً صحافيّاً في وسط بيروت في 14 كانون الأوّل/ ديسمبر أعلن فيه التوصّل إلى اتفاق مع حكومة لبنان؟ وبالرغم من تاريخٍ طويل من الأكاذيب والأباطيل والأساطير والأضاليل في الدعاية الرسميّة للدولة العبريّة، فإنّ البتّ في الحقيقة بين مسؤول إسرائيل وبين مسؤول عربي تكون لصالح الطرف الإسرائيلي لأنّ الطرف العربي يخادع ويوارب ويزيّف عندما يتعلّق الأمر بمفاوضات أو اتفاقات سرّية بين الطرفَيْن. وفي دفاعه عن نفسه، يقول الجميّل: لم يكن هناك نصٌّ مكتوب وموقَّع، كأنّ الاتفاقيّات السريّة تكون مكتوبة وموقّعة وممهورة بختم كاتب العدل. هذا يعني أنّ الجميّل كان يمكن أن يمضي في اتفاقيّة استسلام مع العدوّ تفوق في شناعتها اتفاقيّة 17 أيار، على شناعتها. لم يتوضّح في الرواية سبب غضب فيليب حبيب، وقد يعود ذلك إلى أنّ الحكومة الأميركيّة آنذاك كانت تريد أن يكون لبنان تابعاً وملحقاً لها، وليس تابعاً أو ملحقاً لإسرائيل.

وليس صحيحاً ما يقوله الجميّل عن أنّ اتفاقيّة 17 أيّار لم تكن تتضمّن بنوداً وملاحق سرّية، مثل كلّ الاتفاقيّات بين دولة عربيّة وإسرائيل، خصوصاً عندما تكون الحكومة الأميركيّة تلعب دور الرعاية والوساطة التي يصفها ميشال عون بـ«النزيهة». ثمّ، لا ننسى أنّ إجهاض الاتفاقيّة الذليلة جرى في فترة قصيرة نسبيّاً، وكان يمكن تطوير الاتفاقيّة وزيادة ملاحق إضافيّة عليها. لكنّ الجميّل يجهد في الكتاب في تعداد فضائله بحيث تصبح موافقته على الاتفاقيّة فضيلة بحدّ ذاتها. ويشكو الجميّل أمره للوسيط الأميركي كأنّ أميركا يمكن أن تختار حليفاً عربيّاً على الحليف الإسرائيلي. ورواية الجميّل عن الموقف الأميركي منه، هي ترداد للازمة ترد في سرد الجميّل: أنّه كان هو المُحقّ والصائب وأنّ أميركا خذلته ولم تدرك أهميّة الجميّل في العلاقات الدوليّة، خصوصاً في الصراع بين الجبارَيْن. لو أنّ أميركا استمرّت في دعم الجميّل، لعلّ الاتحاد السوفياتي كان سيسقط في منتصف الثمانينيّات لا في آخرها.

(يتبع)

صحيفة الأخبار اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى