تدمر: انقلاب في المشهد السوري.. وتململ أميركي

سجّل التحالف السوري ـ الروسي من خلال السيطرة السريعة على مدينة تدمر وسط البادية، نقطةً على حساب «التحالف الدولي» الذي تقوده الولايات المتحدة، في السباق بينهما على قتال تنظيم «داعش» والقبض على مفاتيح إعادة ترتيب الأراضي الواقعة تحت سيطرته، عسكرياً وسياسياً.

واستشعر بعض أطراف فريق التفاوض للمعارضة جراء هذا الإنجاز أن هدنة وقف العمليات العدائية قد تتحول إلى فخ محكم بطريقه للإطباق عليه، خصوصاً في ظل فشل الفصائل الممثَّلة فيه من تحقيق أي تقدم استراتيجي ضد «داعش» في ريف حلب الشمالي، كذلك عجزها عن منع تمدده في ريف درعا الغربي، على الرغم من حشدها عشرات الفصائل للقتال ضد «شهداء اليرموك» و«حركة المثنى»، ولكن من دون جدوى حتى الآن.

ولم يسهم النصر الإستراتيجي في تدمر، في إظهار الجيش السوري مع حلفائه وبالغطاء الجوي الروسي، باعتباره القوة الوحيدة المتحررة من القيود الإقليمية والدولية القادرة على قتال «داعش» بفاعلية وسرعة وحسب، بل أعطى مؤشراً مهماً على أن قدرات التحالف السوري ـ الروسي تتفوق بأشواط على التحالف الأميركي ـ الكردي في بعض المناطق السورية، فيما معركة الموصل في العراق يقف منها الأميركيون مواقف مترددة تؤجلها من شهر الى آخر.

وتتبدى هذه الفروقات من خلال المقارنة بين معركة تدمر وكل من معركة عين العرب (كوباني) في سوريا ومعركة الرمادي في العراق، سواء لناحية المدة التي لزمتها هذه المعارك أو لناحية نسبة التدمير التي طالت المدن المحررة.

فعلى سبيل المثال، فيما تطلب خروج «داعش» من بعض أجزاء عين العرب، إذ لم يكن قد سيطر إلا على أقل من نصفها، أربعة أشهر من الغارات الجوية الأميركية المكثفة ومن القتال العنيف، فإن معركة تدمر، التي تبلغ من حيث السكان نصف حجم عين العرب، لم تتطلب سوى أقل من أسبوعين. وبينما كان ثمن خروج «داعش» من عين العرب تدمير المدينة تدميراً شبه كامل، بحيث أصبحت غير صالحة للسكن جراء القصف الجوي المكثف، فإن الدمار في تدمر كان أقل من ذلك بكثير، وهي رغم جراحها ما زالت قادرة على دعوة أبنائها للعودة إليها، كما أن المدينة الأثرية لم تتضرر جراء معركة التحرير أضراراً غير قابلة للإصلاح، ومعظم الأضرار التي أصابتها كانت بفعل تفجيرات «داعش» إبان سيطرته عليها.

كما أن تضارب المصالح بين واشنطن وأنقرة لعب دوراً كبيراً في تقييد دور «قوات سوريا الديموقراطية» ومنعها من التقدم في مناطق «داعش» بين مدينتي جرابلس وإعزاز المحاذيتين للحدود التركية. أما الجيش السوري فإنه غير خاضع لمثل هذه التقييدات، وهو ما سيعطيه حرية أكبر في العمل خلال الفترة المقبلة.

وقد يفسر هذا جانباً من التصريحات الأميركية حول عدم ارتياح واشنطن تجاه تقدم الجيش السوري في تدمر قبل يومين من سيطرته عليها. لأنه بالرغم من تنسيق الحد الأدنى بين واشنطن وموسكو حول الأزمة السورية، فإن التنافس بينهما يتصاعد في بعض جبهات القتال، لا سيما بخصوص معركة الرقة التي من شأن السيطرة على تدمر أن تعطي الجيش السوري محوراً جديداً للتقدم نحوها، بالإضافة إلى محور أثريا – الطبقة.

وأعلن رئيس وفد الحكومة السورية لمحادثات جنيف بشار الجعفري، لقناة «الميادين»، أن دمشق مستعدة للمشاركة في تحالف دولي ضد الإرهاب، ولكن فقط إذا نسقت الولايات المتحدة العمل مع دمشق تنسيقاً لم تفعله حتى الآن. وقال «التحالف الدولي لم ينجح في سوريا لأنه لم ينسق مع النظام. وروسيا نجحت لأنها تنسق معنا». وأضاف «نحن مع إنشاء تحالف دولي لمكافحة الإرهاب لكن بالتنسيق مع الحكومة السورية. ليس لدينا مانع من أن نتحالف مع أميركا لكن يكون بالتنسيق مع سوريا».

ورحبت واشنطن بطرد «داعش» من تدمر. وقال المتحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية جون كيربي «سأجيب بسرعة، نعم، نعتقد أن عدم سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية بعد اليوم (على تدمر) هو أمر جيد»، لكن من دون أن يصل إلى حد تهنئة الجيش السوري بهذا الإنجاز الميداني الكبير. وأضاف «من المبكر جدا أن نعرف مدى تأثير عملية تدمر على (محادثات السلام) بشكل أو بآخر»، معتبراً أن التحول في المدينة لا يغير معارضة الولايات المتحدة للأسد.

وشكل طرد «داعش» من تدمر محور اتصال أجراه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بنظيره الإيراني حسن روحاني، وذلك بعد ساعات من تهنئة بوتين للأسد بهذا الإنجاز. وذكر الكرملين، في بيان، أن الرئيسي الروسي والإيراني «ناقشا بالعمق الوضع في سوريا في ضوء هذا الحدث البالغ الأهمية»، والذي يندرج في «سياق مواصلة مكافحة التنظيمات الإرهابية في سوريا».

وكان أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني علي شمخاني قد رحب، في رسالة إلى الأسد، بانتصار الجيش السوري في تدمر. وتعهد بأن «تواصل الحكومة والقوات المسلحة للجمهورية الإسلامية الإيرانية دعمها الكامل لسوريا وسائر قوى المقاومة» ضد «داعش».

وقد انسحبت حالة القلق جراء إنجاز تدمر على وفد الرياض في محادثات «جنيف 3»، حيث قرأ ممثلو الفصائل في الوفد هذا الإنجاز على ضوء وثيقة المبعوث الأممي إلى سوريا ستيفان دي ميستورا باعتباره دليلاً على أن هدنة وقف العمليات العدائية كانت فخاً وقعت الفصائل فيه. ومن هنا كانت مسارعة «أحرار الشام» إلى التنصل من وثيقة دي ميستورا، من دون أن تمس مبدأ التفاوض، متهمةً الموافقين عليها بالتخاذل وإضاعة «الثورة السورية»، ليلحق بها ممثل «جيش الإسلام» محمد مصطفى علوش، في جو واضح من المزايدة الإعلامية، ليطالب الحركة بإشعال الجبهات وإسقاط الهدنة، في محاولة تهدف على ما يبدو إلى إحراج «أحرار الشام» التي تتعامل مع موضوع الهدنة والمفاوضات بوجهين.

وإذا كان الجيش السوري قد أحدث، من جهة، انقلاباً جذرياً في موازين القوى ومعادلات السيطرة الميدانية، ليس لأنه حقق أول انتصار استراتيجي له ضد «داعش» من موقع الهجوم، بل لأنه أثبت فاعلية جنوده العالية في القتال ضد التنظيم وقدرتهم على دحره بأسرع وقت وبأقل الخسائر الممكنة، مع تكبيد خصمهم خسائر فادحة في الأرواح والمعدات، فإنه من جهة ثانية أحدث انقلاباً مماثلاً على صعيد بعض المفاهيم التي أريد لها أن تشكل إطار عمل يتحكم بأبعاد الأزمة السورية وآفاق حلها. وأهم هذه المفاهيم هو مفهوم «سوريا المفيدة» الذي جرى تسويقه باعتباره خطة إستراتيجية ينوي الجيش السوري من خلالها العمل على تقسيم سوريا، والاحتفاظ بما أسمته بعض الصحافة «الدويلة العلوية».

لكن الجيش من خلال قبضه على قلب البادية، وخروجه عن حدود الشريط الغربي الممتد بين درعا جنوباً إلى حلب شمالاً، أكّد بما لا يدع مجالاً للشك أن خطته التكتيكية التي اقتضت منه، في ظل ظروف ميدانية ضاغطة، أن يركز جهوده على بعض المدن ذات الكثافة السكانية لحمايتها ومنع تمدد التنظيمات المتطرفة إليها، ولم تكن من قبيل التمهيد للتقسيم كما تم الترويج له، بل هي خطة مدروسة بعناية، كان الهدف الأساسي منها تأمين مرتكزات أساسية للجيش في المناطق الإستراتيجية، ومنع الفصائل المسلحة من حيازة مناطق كاملة ومترابطة بعضها مع بعض، وهو ما أُطلق عليه اسم «إستراتيجية التجزير»، أي الحرص على أن تكون مناطق سيطرة المسلحين مجرد جزر منفصلة يسهل محاصرتها والانقضاض عليها عندما تتوافر الشروط الميدانية والعسكرية.

وقد كان الدعم الروسي أحد هذه الشروط التي ساعدت الجيش على الاستفادة من سياسة «التجزير» التي كرّسها في مناطق المسلحين، بهدف إعادة السيطرة عليها بالتدريج. كما أن الهدنة من خلال إيقافها العمليات العسكرية ضد الجيش في مناطق الفصائل التي وافقت عليها، كانت عاملاً مساعداً آخر مكّن الجيش من حشد قواته باتجاه مناطق «داعش» حيث كان أول الغيث فيها مدينة تدمر.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى