حسابات بايدن.. “إسرائيل” أولاً والباقي بين إيران وتركيا

 

في أوّل حديث رسمي له، أولى وزير الخارجية الأميركي أنطوني بلينكن اهتماماً خاصاً لموضوع الاتفاق النووي وحسابات واشنطن المحتملة مع إيران، وهو ما اعتبره الوزير الإيراني محمد جواد ظريف “منطق العصا والجزرة”، وقال إنه مرفوض.

ومع اقتراب الموعد الذي حدّده مجلس الشورى الإيراني، وهو 21 شباط/فبراير، لوقف تنفيذ البروتوكول الإضافي الذي أخضع البرنامج النووي الإيراني لرقابة صارمة من قبل الوكالة الدولية في العام 2015، يتوقّع الجميع تحركات أميركية وأوروبية سريعة للاتفاق مع طهران على صيغة جديدة معدلة للاتفاق النووي، الأمر الذي لن تقبل به القيادة الإيرانية، باعتراف الوزير ظريف خلال زيارته إلى أنقرة يوم الجمعة، وهو ما يتمناه نتنياهو، حتى يتسنى له إقناع الرئيس بايدن بالموافقة على عملية عسكرية إسرائيلية خاطفة ضد المواقع النووية الإيرانية.

ويضع المراقبون العديد من الحسابات لمثل هذا الاحتمال، ما دام سيكون حظ نتنياهو الأخير للفوز في انتخابات 23 آذار/مارس. وقد تشهد المنطقة قبل ذلك التاريخ تطورات مثيرة مع تحرك الرئيس بايدن على جميع الجبهات، وأهمها الإيرانية، ثم التركية، فقد كانت طهران بالاتفاق النووي أو من دونه، وما زالت، العنصر الأهم في مجمل حسابات واشنطن الخاصة بالمنطقة، مع استمرار تحالفها الاستراتيجيّ مع “إسرائيل”؛ العمود الفقريّ للاستراتيجيّة الأميركيّة.

ومع الغموض المخيّم على الموقف المتناقض المحتمل للرئيس بايدن تجاه السعودية والإمارات في ما يتعلَّق باليمن وترتيب أمور منطقة الخليج ضد إيران، يستبعد الكثيرون للإدارة الأميركية الجديدة، رغم قوة اللوبي اليهودي فيها، أن تقوم بأي عمل مباشر ضد إيران، لما لها من تواجد قوي وفعال ومؤثر في مجمل المناطق التي تهم واشنطن وحليفتها تل أبيب، فاليمن يسيطر على باب المندب، كما تسيطر إيران على مضيق هرمز، فيما سوريا ولبنان جارتان لـ”إسرائيل”، التي يعرف الجميع أن ما تهابه فقط هو “مجاهدو حزب الله وصواريخه الدقيقة”.

كما لن تستطيع واشنطن تجاهل الدور والثقل الإيراني في العراق بشكل مباشر أو غير مباشر عبر عشرات الآلاف من مقاتلي الحشد الشعبي، وكلّهم على استعداد للانتقام للشهيدين قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس، وهو الحال بالنسبة إلى مئات الآلاف من مجاهدي أنصار الله، وهم أحفاد الشعب اليمني الذي تصدى للعديد من غزوات العثمانيين الذين فشلوا في السيطرة على اليمن؛ البلد الذي يتغنى الأتراك بذكرياته الأليمة حتى يومنا هذا.

وقد تدفع هذه الذكريات وأمثالها في سوريا وليبيا وباقي المنطقة العربية التي حكمها العثمانيون 400 عام الرئيس بايدن للرهان عليها والاستفادة منها بشكل أو بآخر. ويفسّر ذلك تعيين الرئيس بايدن بريت ماك غورك (صديق “قسد”) ممثلاً شخصياً له لشؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، في إشارةٍ منه إلى اهتمامه المحتمل بتركيا والرئيس إردوغان، فالجيش التركي متواجد في الشمال السوري والغرب الليبي مع عشرات الآلاف من مسلحي الفصائل الليبية والسورية المختلفة، بما فيها “النصرة”.

وتتحدّث أنقرة باستمرار عن اهتماماتها ببقايا الحكم العثماني من الأصول التركية أو التركمانية في سوريا وليبيا (ولبنان واليمن)، وحتى العراق، رغم أنّ نصفهم من السنّة والباقي من الشيعة. ويضع ذلك تركيا وإيران وجهاً لوجه في العراق، كما هو الحال في سوريا، حيث الانزعاج، بل الغضب التركي، من دعم طهران للرئيس الأسد والدولة السورية، من دون أن تهمل أنقرة تحالفاتها التقليدية مع جماعة البرزاني في الشمال العراقي ضد جماعة الرئيس الراحل جلال طالباني المقربين من إيران، وضد وحدات حماية الشعب الكردية السورية المدعومة من واشنطن.

وقد تسعى واشنطن من خلال تحريك الشعور القومي والمذهبي لدى أنقرة ضد طهران إلى إبعاد تركيا عن تحالفاتها مع إيران وروسيا في إطار تفاهمات “أستانا” و”سوتشي”، لينعكس ذلك على ملف “أس-400” ومجمل العلاقات الروسية-التركية، بانعكاساتها أيضاً على حسابات واشنطن في البحر الأسود والقوقاز وآسيا الوسطى؛ الحديقة الخلفية لروسيا.

وقد تدفع مثل هذه الحسابات الرئيس بايدن إلى تحفيز المنافسة، وربما العداء التاريخي، بين أنقرة وطهران، حتى يتسنى له تحقيق المزيد من أهدافه التي ستضع دائماً، وبالضرورة، المصالح الإسرائيلية بعين الاعتبار، ما دامت معظم الدول العربية في وضع لا تحسد عليه، وتقرر مصيرها دولتان غير عربيتين، هما تركيا وإيران، مع الخلاف في وجهات نظرهما حيال مجمل الحسابات بالمنطقة، بما في ذلك “إسرائيل”، التي تعاديها طهران منذ ثورة الإمام الخميني، فيما تشهد علاقات أنقرة معها حالات من المد والجزر منذ استلام إردوغان السلطة نهاية العام 2002، مع الإشارة إلى عضوية تركيا في الحلف الأطلسي ووجود أكثر من 12 قاعدة أميركية فيها، وأهمها قاعدة “كوراجيك” شرق البلاد، ومهمتها رصد تحركات الصواريخ الإيرانية في حال إطلاقها إلى “إسرائيل”، مع المعلومات التي تتحدث عن مساعي أنقرة للمصالحة مع تل أبيب، وهو ما أشار إليه الرئيس إردوغان عندما تحدث عن رغبته في إقامة علاقات ودية مع “إسرائيل”، بعد أن اعترف باستمرار العلاقات التجارية والاستخباراتية معها.

كلّ ذلك في الوقت الذي يستمرّ الجيش التركي في إقامة قواعد عسكرية جديدة في الشمال العراقي بموافقة بغداد، بحجة ملاحقة مسلّحي حزب العمال الكردستاني التركي، ومعظمهم الآن في شرق الفرات بين صفوف “قسد” ووحدات حماية الشعب الكردية. وتريد واشنطن لهذه الوحدات “أن تبقى سداً منيعاً في وجه الامتداد الإيراني عبر الحدود العراقية باتجاه سوريا ولبنان والمنطقة”.

كما تريد لها أن تبقى ورقة مهمّة ستستخدمها قريباً في مساوماتها مع أنقرة، التي لم يتطرق الوزير بلينكن إليها، ولو بكلمة واحدة، وهو ما يثبت صعوبة القرار الأميركي المحتمل ضد تركيا بسبب حساباتها المعقدة بالنسبة إلى واشنطن، التي ستمسك بالجزرة والعصا بيد واحدة في حوارها المرتقب مع إردوغان.

وقد يدفع ذلك الرئيس بايدن إلى دعم الوجود التركي في الشمال السوري عموماً، بما في ذلك إدلب، ليخلق بذلك المشاكل لأنقرة في علاقاتها مع موسكو، وبالتالي للضغط على الرئيس الأسد الذي يعاديه إردوغان بفعل حساباته الشخصية والعقائدية في سوريا. ويرى الجنرال المتقاعد أحمد ياووز في مثل هذا السيناريو “خطراً كبيراً على تركيا والمنطقة، لأن ما يهم واشنطن هو تقسيم سوريا وإقامة كيان كردي في شرقها، ليمتد من هناك إلى الشمال العراقي والجنوب التركي، ولاحقاً الغرب الإيراني”.

وقد يدفع مثل هذا الاحتمال الرئيس بايدن وفريقه إلى تجاهل كل ما قالوه سابقاً عن “استبداد إردوغان ودعمه لداعش والنصرة”، ما داموا بحاجة إلى تركيا بموقعها الجغرافي المهم، وهي التي تمتلك قواعد في قطر والصومال وأذربيجان، وتتواجد في العديد من المناطق التي تهم الحسابات الأميركية بشكل مباشر أو غير مباشر.

ويبقى الرهان الأهمّ على السياسات المحتملة للرئيس بايدن الذي قد يفاجئ الجميع وينسف سيناريوهاتهم الخاصة بالمنطقة، والتي بات واضحاً أن تركيا وإيران من أهم عناصرها، فهما معاً أو على انفراد تؤثران بشكل مباشر أو غير مباشر في مجمل الحسابات الأميركية، والأهم الإسرائيلية، جغرافياً وعسكرياً وعقائدياً، أي دينياً، ولا يمكن التصدي لها إلا بالتوافق التركي – الإيراني، ولاحقاً بانضمام العراق وسوريا إلى هذا التوافق، وهو الوحيد الكفيل بمعالجة جميع مشاكل المنطقة ومنع التدخلات الخارجية فيها.

وفي جميع الحالات، ستكون العودة إلى الاتفاق النووي من دون أي تعديل أو تغيير بمثابة مؤشر وحيد إلى رغبة بايدن الصادقة في إقامة علاقات دولية إيجابية من أجل عالم جديد بمعايير أكثر إنسانية، كما هو الحال في قراره بالعودة إلى معاهدة باريس للمناخ ومنظمة الصحة العالمية، وهو ما تتطلّبه معطيات الواقع الأميركي المنقسم على نفسه، والذي يعيش مشاكل اجتماعية ونفسية معقدة وخطيرة تهدد بانهيار المنظومة الأميركية برمتها، وإلا فإنّ العالم، وخصوصاً نحن في هذه الجغرافيا التي عانت ما عانته من سياسات واشنطن طيلة الأعوام الخمسة وسبعين الماضية، سوف نجد أنفسنا وجهاً لوجه أمام مؤامرات خبيثة صهيو-أميركية جديدة، أدواتها من حكام المنطقة، أياً كانت تسمياتهم، من السلاطين والملوك والأمراء والرؤساء وغيرهم، وإلا لما بارك الوزير بلينكن اتفاقية “أبراهام” بين تل أبيب والدول العربية، وقال: “إننا على هذا الطريق سائرون”، ليثبت بذلك الالتزام الأميركي الاستراتيجي بأمن “إسرائيل” وبقائها إلى الأبد في المنطقة وعلى حساب الشعب الفلسطيني وشعوب المنطقة عموماً.

وقد عانت جميعاً خيانات حكامها ومؤامراتهم. ولولاهم، لما استطاع الرؤساء الأميركيون، على اختلاف أسمائهم، أن يفعلوا بنا جميعاً، من عرب وكرد وفرس وأتراك، ما فعلوه، وذلك فقط بهدف إثبات عشقهم الأبدي لبني “إسرائيل” وآل صهيون، والبعض منا في غرامهم تائهون!

الميادين نت

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى