لا يمكن الحديث عن مجتمع دون أدب وفن وإبداع ، وأيضا لا يمكن الحديث عن كاتب أو فنان دون قلق تجاه همومه وهموم مجتمعه، لأن القلق في آليات الإبداع الفني والثقافي والسياسي محفزٌ ذو فعالية، وعاملٌ مهم فيها.
ومن البديهي القول إن الكتابة، التي أريد الحديث عنها هنا، شرط من شروط المجتمع الذي يسعى إلى تحصين نفسه من التخلف والفساد والمراوحة في المكان وربما التراجع، ثم إنها، مفتاحٌ أساسي للجرس الاجتماعي والوطني الذي يعمل على رصد أحوال المجتمعات والناس، وينبه إلى المخاطر التي تحيق فيها، وكيف يشتغل الجرس دون الكاتب المفكر والمبدع؟!
أحيانا، ينتابني خوفٌ شديدٌ، عندما أشعر ككاتب، أنني مُساقٌ تلقائيا إلى اللامبالاة، والركون إلى الرتابة، والتهرب من المسؤولية، على أساس أن ذلك أكثر راحة لي، وهنا ينتابني الخوف، لأن كثيرين يشتغلون على مبدأ: “لاتنم في القبور، كي لا ترى أحلاما مفزعة”، فأسأل نفسي : هل سأكون واحدا منهم ؟!
وبالطبع لا .
المصيبة عندنا أن الكاتب دخل في هذه الدائرة، فأخرجه المجتمع سريعاً من دائرة الفعل، لأنه أخرج نفسه منها، فغدا كشخصية “إيفان تشرفياكوف” في قصة “موت موظف” عند تشيخوف، الذي مات من الخوف لأنه “عطس” فوصل الرذاذ إلى رقبة الجنرال بريزجالوف الذي يعمل في مصلحة السكك الحديدية!
وعندنا تتسع كثيراً مساحة الصنف الذي يدخل في دائرة تشرفياكوف، فيسعى عندما يكتب إلى المواربة ، وكيل المديح ، ويبعث رسائل مغايرة لما هو مطلوب منه، كي لا تتضرر مصالحه، أي أنه ينافق سواء عرف ذلك أم لم يعرف!
وهناك صنف يريد أن يحتج ويتمرد ويعارض، فيقوم بجمع حقائبه والسفر ليرمي الحجارة من بعيد علينا وعلى من يخاف منه في الدولة، ويرى في الأخر سندا له على بلاده !
الكاتب عندنا ظلم نفسه وظلم الآخرين، فخسر وجوده وفعاليته..
ومنذ أن توالدت القامات الثقافية السورية، وجدت كل منها نفسه في مواجهة مع الخوف، وكان عليه أن يختار بين أن يكون موظفاً يخاف من مسؤول ما ، أو أن يكون كاتبا جريئاً واضحاً في انتمائه الوطني ولا يساوم عليه والأهم أن يكون مبدعاً في مجاله ليكسب مصداقية حقيقية في عرف الثقافة .
نحن بحاجة إلى مكانة اجتماعية تليق بالدور المفترض. وهي مكانة أخذها الفنان، فعزل الكاتب، فما يجرؤ أن يفعله الفنان، يتهيب الكاتب من الدخول فيه، وهنا تأصل دور الفنان، وتراجع دور الكاتب!
كنت أودُّ ولو مرة واحدة أن أقرأ منشوراً نصاً ينتقد الأداء القائم في اتحاده.
الشرط الأساسي للكاتب أن يحمي نصه، والشرط الأساسي للنص أن يحمي كاتبه، ولايحمي النص كاتبه إلاّ عندما ينتمي إلى وطن وناس وتطلعات مشروعة، فلايمكن للكاتب أن يؤيد الإرهاب، ولكن يمكن للكاتب أن يحذر من الأسباب والبؤر التي يخرج منها الإرهاب. لا يمكن لكاتب أن يؤيد الفساد، ولكن يمكن له أن يكتب بجرأة عن الفاسدين، ثم لايمكن لكاتب أن يكون كاتبا دون قرّاء، والقراء لا يقرأون لمن خرج عن مهمته التاريخية !
واقع كتّاب سورية محزن، فهم معزولون عن الناس، الناس في واد وهم في وادٍ آخر، وهذا ينطبق على من هم داخل سورية وخارجها. وكنت أتوقع من الكتاب الذين خرجوا من سورية أن يخافوا عليها، فخاب أملي. وكنت أتوقع من الكتاب الذين ظلوا أن يؤطروها بأفكار جديدة، ويحصنوها بتجذير انتمائهم إليها، فاجتروا أفكارهم التي لاتغني ولاتسمن من جوع، فتركهم الناس . نعم تركوهم إلى آخر الترك !
بوابة الشرق الأوسط الجديدة