سبعون عاماً على رواية «1984» الكابوسية: جورج أورويل… عن استحالة الثورة وعبثية المقاومة

 

في مراجعة له لرائعة جورج أورويل «1984»، كتب اسحق عظيموف (1920 ـــ 1992)، روائي الخيال العلمي الأميركي المعروف، مشتكياً من أن نوعيّة الاستبداد الذي صوّرته الرواية لم يعد ذا صلة بمجتمعاتنا المعاصرة. لقد انتهت النازيّة والفاشيّة والستالينيّة والمكارثيّة. ويضيف: «وإذا كان ثمّة شيء لنخشاه ونحن في عام 1984 الفعلي، هو أن الحكومات المعاصرة شديدة الوهن». كان لروح التفاؤل الساذج هذه أن تصطدم بالواقع بعد 11 سبتمبر والشروع بالتخطيط لغزو العراق: بناء السرديّات والأخبار الكاذبة، التعذيب والقتل خارج القانون، الحروب الاستباقية، المراقبة والتجسس على الأفراد، الهيمنة الثقافية والسيطرة على الأفكار، وخطف اللغة. اليوم وحدها «1984» من كل أدب القرن العشرين، بقيت دليلاً للغالبيّة غير المتخصصة منا في محاولة فهم العالم كما انتهى إليه في عصر الإمبراطورية الأميركية.

استُقبلت «1984»، آخر رواية لإريك بلير الشهير في عالم الأدب بجورج أورويل (1903 ــــ 1950) ـــ نشرها في 1949 قبل أشهر قليلة من وفاته ــــ كأنّها هجوم نثري لاذع على الأنظمة الشموليّة. لذا، تلقفتها وزارة المعلومات البريطانيّة والمخابرات المركزيّة الأميركيّة مع سابقتها («مزرعة الحيوانات» ــــ 1942) كسلاح للهجوم على الفكرة الشيوعية وأنموذج الدولة السوفياتيّة بدايات الحرب الباردة، فطبعت منها ملايين النسخ، وترجمت إلى معظم اللغات في العالم، كما فرضت على تلاميذ المدارس في بريطانيا وبلاد كثيرة كجزء من منهاج اللغة الإنكليزيّة، إلى جانب تقديمها في عدد كبير من المسرحيّات والأفلام السينمائيّة والحلقات الإذاعيّة والنقاشات العامّة والمراجعات في الصحف والمجلات.

أورويل أبدى انزعاجه من ذلك التفسير الضيّق لمغزى روايته، لكنه كان متعباً وفارق الحياة سريعاً قبل أن ينجح في إيقاف التوظيف المباشر للرواية في المجهود الحربي، لينتهي كثيرون إلى الاستنتاج بأن مصدر إلهامه كان تجربته الشخصيّة مع اليسار الذي انتمى إليه لبعض الوقت، قبل أن ينقلب عليه بعدما تطوّع للقتال مع الجمهوريين الإسبان وشاهد رأي العين الصنميّة التي حكمت سلوك وتفكير الرّفاق عموماً، لا سيّما أولئك الذين يتلقون تعليماتهم من موسكو. لكن أورويل أيضاً عمل بعدها مع الأجهزة الأمنيّة البريطانيّة وخدم في جهاز الدعاية الأهم (الـ BBC)، كما أن زوجته كانت موظفة في وزارة المعلومات في لندن وهي الجهة المكلّفة بإدارة مجمل أنشطة البروباغندا أثناء الحرب. وهو لا بدّ لذلك أدرك بحس الروائي الشديد الرّهافة أن الاستبداد ظاهرة عابرة للجغرافيات والأيديولوجيّات، وأنها النهاية الحتميّة التي تتجه نحوها المجتمعات الديمقراطيّة كما الشيوعيّة عاجلاً أم آجلاً. لكن كثافة التوظيف السياسي للرواية في خدمة الحرب الثقافية الأميركيّة الناعمة لم تترك للقراء هامشاً كافياً للنظر فيها خارج نقد الأرثوذكسيّة الستالينيّة.

بدت الرواية في عام 1984 كأنها استنفدت أغراضها التاريخيّة ووصلت إلى نهاية عمرها الافتراضي. لم يكن اسحق عظيموف سوى متحدثٍ باسم تيّار عام لدى مثقفي الغرب الليبراليين الذين شهدوا تصدّع الاتحاد السوفياتي، وسقوط جدار برلين وتفكك الأنظمة الشيوعيّة شرقي أوروبا وشرع بالتفاؤل لدرجة الاحتفال بـ «نهاية التاريخ» وتحقق الانتصار النهائيّ للديمقراطيّة عالمياً. «لقد تلاشت القيمة السياسية لرواية «1984»، ويمكننا أن نكتفي بقراءتها اليوم كمغامرة رومانسيّة مشوّقة الأحداث لا أكثر» كتب ريتشارد بوسنر في عام 2000.

لكن كل شيء تغيّر فجأة صبيحة الحادي عشر من سبتمبر 2001 وبدا كأن العالم دخل في طور جديد بعدما أعلن الرئيس جورج دبليو بوش حربه العتيدة على الإرهاب وثنائيّة التباين بين الخير أو الشرّ عشيّة غزوه العدواني للعراق في 2003 بناء على ادعاءات كاذبة حول امتلاك بغداد أسلحة دمار شامل وتعاون مزعوم لها مع تنظيم «القاعدة» الأميركي النشأة! تكشف دراسة أجراها «مركز النزاهة العامة» في الولايات المتحدة في 2008 أن الرئيس بوش وكبار المسؤولين الأميركيين في فريقه أطلقوا بين أيلول (سبتمبر) 2001 ونيسان (أبريل) 2003 حوالى 935 ادعاء كاذباً بشأن العراق للتأثير على الرأي العام الأميركي، في ما يمكن اعتباره حملة منسقة من النّخبة الحاكمة ساندتها الأجهزة الإعلاميّة التي استقالت بالكامل من دورها كناقد للسلطات، وقبلت بالتحوّل إلى محض أداة لتسويق الكذب.

وهكذا بدأت رواية «1984» بالعودة إلى واجهات المكتبات رويداً رويداً، واستعادت ثيماتها راهنيّة سياسيّة وفلسفيّة تزايدت بعدما كشفت تسريبات ويكيليكس عن طرائق عمل الإمبراطوريّة (يسجن جوليان أسانج من أجلها تحضيراً لتسليمه للولايات المتحدة)، ولحقتها تسريبات إدوارد سنودن عن أنشطة الرقابة اللصيقة التي تمارسها الأجهزة الرسميّة الأميركيّة على كل وسائل التواصل عبر العالم، ثم فضائح فايسبوك و«كامبريدج أناليتكا» في إطلاق حملات بروباغندا مفصلّة على قياس الأفراد، ناهيك بخوارزميّات غوغل و«آبل» و«أمازون» التي باتت تعرف عنهم أكثر مما يعرفون هم أنفسهم أحياناً. لكن «1984» قفزت إلى قمّة أرقام مبيع الكتب في الولايات المتحدة بعدما استخدمت كيليان كونوي مستشارة الرئيس ترامب تعبير «الحقائق البديلة» المستلّ من رواية أورويل في معرض دفاعها عن تصريحات كاذبة أطلقها السكرتير الصحافي للرئيس بشأن أعداد الحاضرين لحفل التنصيب الرسمي (يناير 2017)، فاستدعيت بعدها مصطلحات نحتها أورويل للتداول الكثيف في المقالات الصحافيّة، وتجدد استخدام «الأورويليّة» كأداة لوصف الأزمة الكابوسيّة المظلمة التي نعيشها.

يمكن قراءة «1984» على مستويات عدة، وهي تطرح قضايا سياسيّة وثقافيّة عديدة يستحق كل منها بحثاً مفصلاً وقراءة متأنيّة. لكن الرواية بمجملها أشبه ببحث في أصول الهيمنة، سعياً لتفسير مسألة استحالة الثورة وعبثيّة المقاومة في المجتمعات الغربيّة المعاصرة. لم يكن أورويل بالطبع أوّل من استكشف تلك القضيّة، إذ كان الماركسيّون الألمان في مدرسة فرانكفورت للعلوم الاجتماعية قد شرعوا في التنظير حولها منذ عشرينيات القرن العشرين، بينما وصَفَ دينامياتها بدّقة ساعاتي المفكّر الإيطالي أنطونيو غرامشي (1891 ـــــ 1937) في «دفاتر السجن». كما أن روائيين سابقين لأورويل (اطلع على أعمالهم شخصياً وكتب عنها مراجعات منشورة) وضعوا أعمالاً في السياق نفسه، إلى درجة أنّ بعضهم اتهموه بالسرقة الأدبيّة. ومع ذلك، فإن «1984» ـ رغم توظيفها الدعائيّ وتعدد مصادر أفكارها المحتملة وحتى بساطتها الأدبيّة ـــ تبقى نصاً استثنائياً قادراً على التسبب بصدمة وعي لقارئها، وإن كان ذلك أحياناً وعياً مزيفاً انتقائياً ضد شموليات ـــ تختارها لنا أجهزة الدعاية ــــ دون أخرى.

كانت مسألة استحالة الثورة وعبثيّة المقاومة في المجتمعات الغربية قد صدمت علماء الاجتماع الألمان كما منظّري اليسار. إذ فشلت كل ثورات الطبقات العاملة في تولي السلطة (ألمانيا)، بينما أُسقطت الجمهوريات الشعبيّة خلال وقت وجيز بعد قيامها (هنغاريا) أو لم تتعد الحراكات العماليّة حاجز الإضرابات والاعتصامات الفوضوية من حيث المبدأ (إنكلترا)… فلماذا لم تَثُر هذه الشعوب أو تدافع عن ثوراتها؟ وحتى لو افترضنا أن العنف ينفّر الناس، فلم لا تقوم الأغلبيّة الفقيرة والمهمشة بإسقاط النخب الحاكمة بالتصويت المباشر وتوليّة آخرين منهم؟ يقول وينستون بطل «1984» بينما يتحدّث لرفيقه في الحزب «إذا كان هناك ثمّة أمل، فهو فقط بيد البروليتاريين» ليرد عليه أوبريان «لن يفعلوا. إنهم عديمو الفائدة كما قطيع حيوانات».

بالطبع هذا السؤال بات مطروحاً اليوم أكثر من أي وقت مضى. خذ مثلاً الولايات المتحدة زعيمة العالم الديمقراطي. 90% من الشعب الأميركي يملك خمس ثروة البلاد، و1% فقط بينهم يمتلكون ما يقارب 40% منها، فلماذا يصوّت الأميركيون مثلاً للنخب ذاتها التي تضطهدهم مرّة بعد مرّة رغم أننا نعيش اليوم في عهد الإنترنت والمعرفة المفتوحة؟ وجهة نظر أورويل في «1984» هي ذاتها خلاصة الفكر الغرامشي: البروليتاريا لا تعلم بأنها خاضعة للاستغلال والاضطهاد، لكن الدائرة العبثيّة هنا هي أن توعية البروليتاريا لا بدّ لها من ثورة تكسر الأنظمة القائمة وتفتح الكوّات، لكن الثورة غير ممكنة عملياً قبل تحقق الوعي.

في أوشينيا، الدولة الديستوبيّة موضوع رواية «1984»، يتعرّض المواطنون لسيل لا ينقطع من أكاذيب وتلفيقات وأنصاف حقائق تأتيهم عبر أدوات الإعلام الجماهيري. هذه بالطبع مدجّنة بالكامل تقريباً (90% من كل الإعلام الأميركي المعاصر مملوك حصراً من ست شركات كبرى تتداخل مصالحها عضوياً بالنخبة الحاكمة، وقس على ذلك دولاً أخرى مثل بريطانيا وأستراليا وكندا، ناهيك بدول العالم العربي من دون استثناء). لذا هم ينتهون إلى تصديق ما تريد لهم السلطة تصديقه. حتى لو انقسم المواطنون في متابعتهم لعناوين مختلفة داخل مصنع الأكاذيب الهائل هذا ـ لأن قليلين منهم يمتلكون وقتاً للاطلاع على عناوين مختلفة ــ فسينتهون للعيش داخل فقاعة محددة، اختاروها بأنفسهم، يتخندقون بها ويتهمون كل من يخالفهم الرأي إما بالغباء أو بالخيانة ـ وإن كانوا شركاءهم في الغيبوبة ـ من دون أن يتناهى إلى ذهنهم يوماً أنهم وقود في حرب هويّات مفتعلة غايتها الوحيدة صرف أنظارهم عن الحرب الطبقيّة التي تسحقهم.

يتلاقى نهر الأكاذيب الجارف هذا مع تقنيّات تحكّم بالعقول أبدع أورويل في «1984» بوصفها ونحت أسماء إنكليزيّة لها. خذ مثلاً الـ Crimestop أو (درء المفاسد إذا شئت) وهي تستهدف إبقاء الجمهور خاضعاً للأرثوذكسيات المتوارثة (دين، جندريّات، تراتبيات طبقيّة…) ليفقد بالتالي القدرة على التفكير المستقل، إذ أن الأرثوذكسيّات هي انعدام الوعي. ولا يخاطر كثيرون بتحدي تلك علناً، إذ أن ذلك قد يمسّ بمواقعهم الاجتماعية أو الاقتصادية (حقيقية كانت أم مأمولة)، لا بل قد تتسبب في تغييبهم قتلاً. أيضاً يقول أورويل إنه يُفترض بسكان أوشينيا ممارسة ما اسماه بالـ Doublethink بمعنى القدرة على اعتناق فكرتين متناقضتين معاً. مثلاً تقول إحداهن بأن مشكلة النساء في لبنان هي القوانين المجحفة، لكنها مع ذلك تؤيّد خطاً سياسياً معيناً. بالطبع، فإن المنطق البسيط يقول بأن القوانين المجحفة تلك ليست ممكنة من دون مشاركة خطّها السياسي في المنظومة، لكنّ تنشئتها الاجتماعية تمنعها من فهم ذلك، وتظل مقتنعة بالفكرتين معاً. في المجتمعات الغربيّة، فإن هذه التقنية تسمح للمواطنين بأن يقبلوا مبدأ أن يتحوّل الرجل إلى امرأة لكنهم يستهجنون أن يتحوّل رجل أسود إلى أبيض، أو هم يؤيدون عدالة الأجور في بلادهم لكنهم غير مستعدين للتنازل عن منافع مجتمعهم لمصلحة عدالة أجور مواطني الدّول الفقيرة وهكذا. في أوشينيا أيضاً، يقول أورويل بأن المواطنين يتدربون على ما أسماه بالـ Reality Control أو تلك الإعادة الدائمة لصياغة ذاكرتنا من خلال الاطلاع على معلومات وتجنب أخرى. وهكذا يستمر بالاحتفال بعيد الاستقلال سنةً بعد سنةً رغم أن بحثاً سريعاً يكشف بأن دولتك بمجموعها مجرّد مشروع أقامه أعداؤك.

يطرح أورويل في «1984» تحليلاً متقدماً بشأن مسألة الهويّات القوميّة وهستيريا العداء للآخرين، وهو يصوّر في الرواية كيف تبذل السلطات جهداً ممنهجاً في بناء تلك الهويّات المفتعلة عبر وسائل الإعلام وأدوات الثقافة والفنون بما فيها الموسيقات الحماسيّة التي تنمي كراهيّة من هم ليسوا مثلنا (إيران ـــ سعودية مثلاً) لينصرف ذهن المواطنين عن الاستغلال الطبقي البشع الذي يتعرضون له، وتصرف أي طاقة زائدة لديهم في هستيريا جماعيّة ضد الآخر، ويصبح سهلاً محاصرة من يخالف هذا التوجه بينهم بحجة الخيانة للوطن وللوحدة الوطنيّة، ويزداد اعتمادهم على النظام الذي يضطهدهم ما دام هو رأس مواجهة هؤلاء المختلفين عنا من دون التوقف ولو برهة للتفكير بأن عند الآخر شركاء لنا في الإذلال الطبقي والاقتصادي المعولم.

يقول المفكر اليساري المعروف ستيوارت هول بأنّ الثقافة ليست أبداً باتجاه واحد، رغم أن معظم الإنتاج الثقافي يأتي من جهة النخبة. إذ يمكن للمواطنين الإفادة من تلك المنتجات نقدياً بل إعادة توجيهها أحياناً ضد النخبة كثقافة مضادة. ربّما قد حان الوقت لكي نسترد رواية أورويل من أنياب أجهزة المخابرات الغربيّة، ونطلقها بقراءة جديدة لتنوير الناس بطبيعة الاستغلال الذي يتعرضون له بشكل دائم. تلك هي مساحة نضالنا الممكن الأخيرة قبل أن تصبح كل البلاد أوشينيا، وكل الأزمنة 1984.

صحيفة الأخبار اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى