كتب

علامات على ‘بيت القبطية’

تدور أحداث رواية “بيت القبطية” للكاتب أشرف العشماوي في قرية صغيرة بشمال الصعيد تسمى “الطايعة” أغلب سكانها من الأقباط، يُنقل إليها المحقق القضائي “نادر فايز” وتقود المصادفة “هدى حبيب” القبطية إلي الإقامة بها هاربة بعد قتل زوجها، ومن خلال هذين الغريبين نتعرف على القرية وأحوالها وما يدور بها من نزاع  بين المسلمين والأقباط على الحيازة الزراعية، ومن حوادث قتل وانتحار غير معلومة الأسباب.

لا ينفرد صوت واحد بالحكي، وإنما يتناوب عليه “نادر” و”هدى”، وقد توزع السرد بينهما في اقتدار فني، وذكاء مدهش؛ ذلك لأن اللغة، على مستوى المعجم وبنية الحوار والوصف والسرد، وعلى مستوى الصور والأخيلة، كانت تتشكل في كل فصل بحسب شخصية الراوي وثقافته، وحالته النفسية، ففصول “هدى” تفيض بالشجن والعذوبة والشوق إلى الحياة الحرة الكريمة، بينما تزدحم فصول “نادر” بالأسئلة حول القانون والعدالة، وعلاقة الدين والسياسة بالمجتمع، ويظهر فيها، بحكم الوظيفة، شيء من شخصية العشماوي وخبراته وتجاربه، كما أن بين فصول “نادر” وفصول “هدى” شيء من التناص اللطيف يعزز الحبك ويدعم التماسك النصي، ودائمًا تمهد الأحداث هنا لظهور أحداث أخرى هناك.

وثمة تناص لطيف آخر يربط هذه الرواية بــــ”يوميات نائب في الأرياف” لتوفيق الحكيم، يشير إليها الكاتب صراحة في بداية الرواية حيث يراها “نادر” مع كتاب آخر للحكيم هو “عدالة وفن” بين رفوف كتب القانون في مكتبة الاستراحة التي يقيم بها، ثم يتناص معها في بعض المشاهد والأحداث مثل مشهد تشريح الجثة.

ولا ينحصر موضوع هذه الراوية الجميلة في الحديث عن الفتنة الطائفية ونبذ العنف والتطرف، أو النقد الشديد لأوضاع  مصر في أواخر عهد مبارك، نعم هذا ما يدور على السطح، وهو المستوى الأول من التلقي، غير أن الحكاية في جوهرها هي قصة الإنسان البسيط في بحثه الدائب عن الحرية والعدل الهاربين أبدًا.

تقول هدى بطلة الرواية: “منذ طفولتي وأنا حبلى بوهم الحرية”، وفي حديث بينها وبين نفسها تقول:”لم أعد أستطيع العيش في الظل،حياتي كلها على هامش السعادة والاستقرار، هاربة دائمًا من أشباح كثيرة، فقر وظلم وقهر واضطهاد، وهي لا تتوانى عن مطاردتي وتلحق بي دومًا، لماذا يتعامل معي القدر كنبتة رقيقة، يُطلق رياحه نحوي كل حين لتتلاعب بي؟ هل لو انقلبت حجرًا صلدًا بلا مشاعر لكان حالي أفضل ولنعمت بالاستقرار؟”

وقد يظن المتلقي أنه أمام رواية مباشرة تعطيه كل ما لديها من القراءة الأولى، وهي ليست كذلك، إنها بحاجة إلى الصبر والوعي من أجل الوصول إلى معانيها الثواني، وهي تنبهنا، من طرف خفي، في الصفحات الأولى إلى أهمية العلامات التي يمكن استثمارها في التفسير والتأويل، يقول نادر: “أؤمن دائمًا بالإشارات والعلامات فنحنُ في متاهة وطُرق الخلاص تشابهت علينا، والعلامات منحة لا تُرد لنهتدي. “وأزعم أن أدب أشرف العشماوي كله، وإن كان شديد الانغماس في الواقع، يحتاج في تلقيه إلى الوعي بأثر تلك العلامات المتناثرة بين صفحاته.

ولعل أول تلك العلامات هو “بيت القبطية ” نفسه الذي رسم أحدهم صليباً أسوداً كبيراً على بابه، ربما ليميزه عن بيوت المسلمين التي قبله، ثم صارت الدار تعرف ببيت القبطية….  و”في أقل من شهر صار بيتنا علامة للتائهين يكفي أن تقول ناحية بيت القبطية فيدلوك على طريق السوق الذي ينعقد كل ثلاثاء وخميس خلف بيتي.”

كما أصبح البيت علامة على اجتماع أهل القرية من المسلمين والمسيحيين، رغم ما بينهم من صراعات وأحقاد، على التعلق بالخرافة والوهم، فقد أصبحت هدى، في ظنهم، صاحبة كرامات يقصد بيتها المرضى والعجزة بحثاً عن العلاج.

ومن العلامات التي يقف أمامها القارئ تلك الصور الحية النابضة التي أفادت من تقنيات التصوير السينمائي، واعتمدت في مواضع كثيرة على تيار الوعي، وهي علامات دالة على الأحداث ومكنون الشخصيات، ومنها الصور الكثيرة التي نراها على لسان “نادر” تتحدث عن العدالة في بلادنا وحالها المقلوب، يقول: “سألت نفسي مرارًا وأنا أطوف حول محراب العدالة ملتمسًا الرحمة والإنسانية، عن ذلك العبقري الذي جعل للعدالة رمزًا عبارة عن امرأة معصوبة العينين تحمل في يدها ميزانًا، لست أدري كيف تستطيع وهي شبه عمياء أن تحفظ اتزان ميزانها.”

والعبارات القوية المكثفة التي يستدعيها السرد أو الحوار في ثياب الحكمة، علامات أيضًا، تكشف عن دلالات عميقة في النص، وتصبح علاقتها بالأحداث في سياقها  كعلاقة السبب بالنتيجة، أو العلة بالمعلول: “كلنا نولد أبرياء.. براءة لا تلبث أن تتخلى عنا عاجلاً أم آجلاً، طالما نعيش بين فكي مجتمع مزيف، لا يشبع من التهام الأنقياء وتشويه الأسوياء”.

وعندما يقول “للخيل عزة لا يفهمها المرء بسهولة، تحزن ولا تبوح..تتألم ولا تنكسر..ولما يفيض بها الكيل..تموت.. لكنها تموت واقفة.” يدلنا على المأساة والمصير.

والأسماء علامات على الأفكار والمصائر، فاسم القرية (الطايعة) دليل على استسلامها لما يراد لها، لذا أصبحت على الألسنة (التايهة).

و”هدى حبيب” عاشت تنشد معاني الهدى والمحبة، ولما  أرادت، بدافع من الخوف، أن تتخفى خلف اسم غير اسمها كان من نفس المعدن، وهو “نور”.

ووكيل النيابة “نادر فايز كمال” كان نادرًا في إيمانه بالعدالة، وكان ساعياً إلى الكمال في تحقيق رسالته السامية، والطريف أن “هدى” عندما أرادت تسمية ولديها باسمه اختارت اسمي “نادر” و”كمال”، وتركت “فايز” في المنتصف؛ ربما لأنها لم تعرف الفوز، ولم تشعر إلا بطعم الهزيمة والانكسار، أما “رزق” فقد كان رزقاً ساقته الحياة لها لتمنحها فرصة جديدة للعيش الكريم.

كما حضرت دلالة الأسماء بشكل عكسي عند “خضر” الذي كانت حياته مع “هدى” يابسة شديدة القسوة والعقم، و”هلال” شقيق “خضر” فقد أظلمت الدنيا في وجهها عندما رأته، ولاحت لها صور الماضي الكئيب، واسم القرية الجديد “السلام” ليس فيها شيء من معناه، وإنما غطت به الحكومة على الأحداث، دون علاج حقيقي للأزمة.

والمفارقة في المصائر أيضاً علامة، فبين موت “خضر” وعودته للحياة تشكلت مأساة “هدى”، وبينما يعيش الشيخ رجب وأمثاله في أمان يموت أمثال “هدى” و “حمادة إسلام” الفتى سائق التوتوك الذي يدل حضوره الصغير جدًا في الرواية على معانٍ كبيرة، وانظر إلى “هدى” و”نبوي الديب” تجد تشابهاً  كبيراً؛ ففي حياة كل منهما سر كبير يخفيه، وتنطوي النهاية في الحالتين على مفارقة مؤلمة، يقرأ نادر الفاتحة على روح “نبوي” ويترحم عليه، وهو يعلم أن القرية لن تتذكره، وأنه عاش “مجرد كومبارس في فيلم رديء، أو مثل شخصية ثانوية في رواية طويلة، سينسى المتفرج ملامحه عندما تتغير اللقطة، ولن يتذكره القارئ وهو يقلب صفحات روايته.”

ثم يترك “نادر” القرية  وهو يترحم على “هدى” “تلك السيدة التي ماتت منا؛ لأنها فقط أرادت الحياة”.

والرواية في النهاية عمل فني مكثف في لغة راقية محكمة، توافرت فيه عناصر التماسك النصي، وهي تنطلق من رؤية إنسانية، لا تنحاز إلى طائفة على حساب الأخرى، وإنما تنحاز إلى الوطن والإنسان والعدالة، والعشماوي في “بيت القبطية” يدق، بقوة وجسارة ومحبة شديدة لوطنه، أجراس الإنذار وينبهنا إلى الخطر القادم؛ لذا أزعم أنه جعل الطفلين اللذين ماتت أمهما آخر العلامات في الرواية، فقد جعلهما رمزاً  وعلامة على المستقبل الغامض، يقول عنهما “نادر” وكأنه يصف لنا المستقبل: “يبدوان بلا ملامح واضحة، لم أر إلا أطيافاً سوداء مهزوزة، ورثا إرثًا ثقيلاً من شقاء واضطهاد، صارا مجرد خيالات تتراقص كالطير المذبوح، تنتظر قراراً من القاضي في جولة طويلة بإثبات نسبهما لأب من اثنين..رزق أو خضر، ليستكملا بعدها مسيرة أشبه بقفزة في الظلام، فهل يستطيعان النجاة؟”.

ميدل إيست أونلاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى