الحديثُ هنا عن كتاب فواز طرابلسي الجديد، «زمن اليسار الجديد»، الصادر عن دار رياض نجيب الريّس. شارك في صياغة البرنامج المرحلي كلّ من: جورج حاوي ومحسن إبراهيم مع كمال جنبلاط (بالإضافة إلى إنعام رعد وألبير منصور وعصام نعمان). الصيغة الأوليّة كانت من إعداد الأخير (ص. ١٦٥).
جورج حاوي، حسب ما نقل عنه طرابلسي، قال إن البرنامج كان مزيجاً من مقرّرات المؤتمر الثالث للحزب و«فكر كمال جنبلاط». البرنامج، عندما تقرأه اليوم، يبدو شديد الاعتدال، وليس أكثر من دفع النظام اللبناني اليميني نحو الليبراليّة. أي أن الحركة الوطنيّة كانت تطمح إلى القيام بدور اليسار في الأنظمة الديموقراطية في الغرب.
ينقل عن المبعوث الأميركي في حرب السنتين، دين براون. أنه أبدى دهشته عندما قرأ البرنامج لأنه كان يتوقّع تأميمات وبرامج شيوعيّة. تفاجأت من حديث طرابلسي عن صياغات تقارير المنظمة أن تقرير آب ١٩٧٥ كان آخر تقرير شاركَ هو فيه. مع أنه كان نائب الأمين العام (الرجل الثاني في التنظيم) (ص. ١٦٦).
البيان : إجراء «تعديلات أساسيّة على الشكل السياسي للسيطرة البورجوازيّة»
بات الأمر منوطاً بالكامل بمحسن إبراهيم، ولم يكن طرابلسي يمارس صلاحيّة الرجل الثاني مع أنه كان أقرب بكثير من القاعدة. يدعو البيان إلى إجراء «تعديلات أساسيّة على الشكل السياسي للسيطرة البورجوازيّة» لكن «من دون المساس بالطبيعة الطبقيّة للسلطة» (ص. ١٦٧). الغرابة أن التقرير طالب بجعل لبنان «ساحة التصدّي الرئيسيّة لدحر المشاريع الاستسلاميّة» لأن المنظمة كانت وثيقة الصلة بالجبهة الديموقراطيّة التي كانت أوّل فصيل قبلَ علناً بـ«حلّ الدولتين» (وكان ذلك بإيعاز من ياسر عرفات).
يظهر من الكتاب كم أن اليسار اللبناني لم يكن متأكداً في تحديده للعلاقة بين الإقطاع السياسي والبورجوازيّة اللبنانيّة. في عرف المنظمة، لم يكن الإقطاع إلا «الوكيل السياسي للبورجوازيّة»، مع أن العلاقة تختلف بين طائفة وأخرى. وطرابلسي يغالط في دعوة المنظمة إلى «علمنة المجتمع»، وكانت الدعوة سائدة في أوساط اليسار.
يقول إن علمنة المجتمع لا تستوي من دون فرض وقهر، كما جرى في ألبانيا الشيوعيّة مثلاً. طبعاً، كانت أحزاب اليمين ترفع شعار العلمنة لإحراج المسلمين وتعميق الشرخ بين أحزاب اليسار والشخصيّات والتنظيمات الإسلاميّة الطائفيّة. ويعترف بأن فكرة مجلس الشيوخ الطائفي صدرت عن الحركة الوطنيّة.
الجبهة اللبنانيّة : لبنان «ملك للفينيقيّين لا للعرب»
الجبهة اللبنانيّة (التي يصرّ ورثتها على أن صراعها كان محصوراً فقط برفض التوطين الفلسطيني) اعترفت في أول بيان لها بأنها تنظر إلى الصراع على أنه بين يمين ويسار. وأن لبنان «ملك للفينيقيّين لا للعرب» (ص. ١٧٦). وعندما تعرّضت بكفيا لخطر السقوط، أرسل بيار الجميل إلى الطرف الآخر أنه يوافق على العلمانيّة شرط الامتناع عن التمدّد نحو بكفيا. والعرض غريب لأن العلمانيّة لم تكن من أوائل منطلقات الطرف الآخر في حربه.
يتحدّث فواز طرابلسي عن مرحلة التوافق الأميركي – الإسرائيلي على التدخّل السوري في لبنان، لكن عنوان شعار عرفات عن «القرار الفلسطيني المستقلّ» (ص. ١٨١) لا يصلح للمرحلة. الصراع لم يكن يوماً عن استقلاليّة قرار المنظمة (الخاضعة حتى ١٩٩٠ لنفوذ التمويل الخليجي)، بل كان صراعات بين أنظمة مختلفة، واختار عرفات أن يطلق وصف «القرار الفلسطيني المستقل» على مسار التسوية والتنازلات.
فواز طرابلسي – مطالبة شمعون وشارل مالك بتدخّل عسكري أميركي في لبنان في ١٩٧٦
يتحدّث فواز طرابلسي عن مطالبة شمعون وشارل مالك بتدخّل عسكري أميركي في لبنان في ١٩٧٦. لكن الوثائق الأميركيّة التي درسها الأكاديمي الشاب. نيت جورج (وقد أطلع فواز على أطروحته للدكتوراه) تكشف أن المطالبة بالتدخل العسكري الأميركي من قبل اليمين اللبناني سبقت نشوب الحرب الأهليّة بسنوات. وتعجّبت أن طرابلسي صدّق رواية جوزيف أبو خليل (ص. ١٨٣) عن أن طلب مساعدة إسرائيل جرى في ١٩٧٦، بينما نعلم اليوم أن العلاقة بين «الكتائب» وإسرائيل بدأت في الخمسينيّات.
يروي المؤلّف عن اللقاء الذي جرى بين بشير الجميّل وكمال جنبلاط في حزيران ١٩٧٦ (بالرغم من رفع شعار «عزل الكتائب» منذ ١٩٧٥). في الاجتماع، أبدى الجميل استعداده لقبول البرنامج المرحلي، ما يثبت قصوره (أي البرنامج) وعدم صلاحيّته، كما طالب بشير بوقف التقدّم على جبهة بكفيا (ووافق جنبلاط على الطلب، مفوّتاً فرصة كان يمكن أن تنهي الحرب بسرعة). وهذه المعلومة مفيدة لأنها تدلّ على أن النظام السوري لم يكن وحده ممانعاً لفكرة الحسم العسكري ضد اليمين، فقد شاركه عرفات الفكرة، وبعض قادة الحركة الوطنيّة أنفسهم (جنبلاط كان يتأرجح بين القبول والرفض، وكان قد قبل بها قبيل اغتياله).
فواز طرابلسي – جنبلاط فضّل المسار الساداتي على مسار النظام السوري في الصراع مع إسرائيل
يذكر فواز طرابلسي صدّ قوات فلسطينيّة (برعاية أبو جهاد) لتقدّم القوات السورية على محور بحمدون. لكن حتى أبو جهاد لم يكن من أنصار المواجهة مع النظام السوري (وكانت المواجهة أقرب إلى الرمزيّة). يذكر طرابلسي أن السادات لم يستقبل جنبلاط قبل عودته إلى بيروت. لكن العلاقة بين جنبلاط والسادات كانت وثيقة للغاية. أي أن جنبلاط فضّل المسار الساداتي على مسار النظام السوري في الصراع مع إسرائيل. وهو كان من داعمي السادات حتى بعد اتفاق سيناء، ما دفع «جبهة الرفض» الفلسطينيّة إلى إصدار بيان قوي ضده.
دبّر محسن إبراهيم أمر انتخابه أميناً عاماً لمنظمة العمل الشيوعي. في الوقت الذي كان فيه طرابلسي في مهمّة في الخارج (كلّفه بها إبراهيم). يبحث طرابلسي في مسألة حتميّة الحرب، والنقاش فيها يفترض أن الإرادة كانت داخليّة وأنه يمكن لطرف فيها أن يرعوي ويمنعها. لكن هذا كان مستحيلاً لأن «الكتائب» كانت مرتهنة بالكامل لإسرائيل وأميركا. في زمن الحرب الباردة وفي زمن محاولة إسرائيل القضاء على أي وجود فلسطيني مسلّح.
ولبنان كان مرشّحاً لكي يكون الساحة الثانية بعد الأردن لأن قيادة المقاومة انتقلت إليه. ومحاولات «الكتائب» لإشعال الحرب بدأت في ١٩٦٩. ولم يكن يمنع نشوب الحرب إلا غياب الطرف الذي يمكن أن يكون طرفاً فيها: عرفات كان حازماً في رفض الانخراط في الحرب، والأطراف اليساريّة الثوريّة لم تكن بالغة التأثير، وكانت تخضع لإرادة «فتح» لأسباب عديدة.
الاسم الأوّل المقترح للـ «الجبهة اللبنانية» هو «الجبهة المسيحيّة»
وطرابلسي على حق في أن «الجبهة اللبنانية» (كان الاسم الأوّل المقترح للجبهة هو «الجبهة المسيحيّة». لكن الخارج رأى أن التسمية الدينيّة تضرّ بالقضيّة) تحمّلت «المسؤوليّة الكبرى في نقل النزاع من سياسي إلى عسكري» (ص. ١٩٤). وخيار الحرب (كما يتضح من الوثائق الأميركيّة المفرج عنها) كان خياراً للدولة اللبنانيّة نفسها (أو الرئاسة اللبنانيّة التي كانت وحدها تتحكّم بمقدّرات الدولة) التي رأت في المقاومة الفلسطينيّة خطراً على نظام الاستئثار الطائفي وسياسة الدعم المبطّن لإسرائيل في الصراع العربي الإسرائيلي.
الحرب على المخيّمات الفلسطينيّة في أيّار ١٩٧٣ كانت مرتّبة مع إسرائيل
وحرب نظام سليمان فرنجيّة على المخيّمات الفلسطينيّة في أيّار ١٩٧٣ كان مرتّباً مع إسرائيل وبالتنسيق مع قيادة الجيش (كان رئيس الأركان، يوسف شميط، من أنصار شنّ حرب حاسمة ضد المقاومة الفلسطينيّة). وهل هي صدفة أن الحرب ضد المخيّمات أتت بعد أسابيع من عمليّة فردان ضد قادة المقاومة؟
نظام شارل حلو (حتى لا نتحدّث عن الحقبة التي سبقته) كما نظام سليمان فرنجيّة، كان ينسّق عبر مفوّضين مباشرين مع إسرائيل في العمل ضد المقاومة الفلسطينيّة، وكانت الإدارات الأميركيّة تعلم عن تلك المفاوضات إمّا عبر الرئيس اللبناني أو من مصادرها الخاصّة. وكان للكتائب «تصلّبان»، كما يروي طرابلسي: تصلّب حول وجود المقاومة الفلسطينيّة وتصلّب حول الإصلاح السياسي والتوازن الطائفي. تصريحات بيار الجميّل اليوميّة كانت تذمّ اليسار اللبناني أكثر بكثير مما كانت تذمّ المقاومة الفلسطينيّة. وموقف الجميّل الطائفي لم يكن خافياً.
يستشهد فواز طرابلسي بتصريح للجميّل من عام ١٩٧٤ يقول فيه: «لا يحقّ للمسلمين المطالبة بالمساواة التامة في الحقوق طالما أن المسيحيّين لا يثقون بولائهم للبنان ويتخوّفون من تزايد تضامنهم مع القضايا العربيّة» (ص. ١٩٦). هذا التصريح يفسّر العقليّة التي أدّت إلى ارتكابات القتل على الهويّة والسبت الأسود. أي أن خوف، أو رفض، اليمين اللبناني للمقاومة الفلسطينيّة لم يكن له علاقة بالسيادة (التي كانت مخترقة من إسرائيل منذ ١٩٤٨)، بل من تأثير الوجود الفلسطيني على تعزيز الموقع التفاوضي للمسلمين في النظام اللبناني.
في لبنان ما قبل الحرب، لم يكن هناك حصريّة سلاح: كان السلاح محصوراً بالجيش وبميليشيات اليمين المتحالفة مع الجيش والمستفيدة من خزائنه.
فواز طرابلسي – الحركة الوطنيّة اتخذت قرار التسليح بعد ١٩٧٣
يقول طرابلسي إن الحركة الوطنيّة اتخذت قرار التسليح بعد ١٩٧٣، وإنها سرعان ما انتقلت من الدفاع إلى الهجوم. لكن مسار الحرب الأهليّة في حرب السنتين كان خاضعاً بالكامل للفعل الكتائبي الشمعوني.
جبهة الشيّاح كانت الوحيدة التي شهدت محاولات للاختراق في البداية، لكن كان ذلك من قبل تنظيمات صغيرة (مثل «قوات الحسين الانتحاريّة» وحزب العمل الاشتراكي العربي – لبنان).
عرفات سيطر بسرعة على الوضع ومنع تغيير وضع الجبهات باستثناء حرب الفنادق لأن الخطة الكتائبيّة كانت تهدف إلى الوصول إلى البنك المركزي ورأس بيروت. يقول المؤلّف إن البحث عن «اليمين الذكي» (الذي كان غسان تويني قد بشّر به) لم يحقّق.
ويذكّرنا المؤلّف بالتوتر والخلاف بين كمال جنبلاط وقيادة المقاومة. في اليوم الذي اغتيل فيه كمال جنبلاط، كان هاني الحسن يخطب في المجلس الوطني الفلسطيني وينتقد «مغامرات» كمال جنبلاط و«استخدامه للمقاومة الفلسطينيّة من أجل مصالحه السياسيّة الخاصّة» (ص. ٢٠٨).
محسن إبراهيم أميناً عاماً تنفيذيّاً للمجلس السياسي المركزي للحركة الوطنيّة
وقرّر وليد جنبلاط اختيار محسن إبراهيم أميناً عاماً تنفيذيّاً للمجلس السياسي المركزي للحركة الوطنيّة، بعد الحصول على موافقة الحزب الشيوعي (كان إبراهيم قليلات يريد المنصب لنفسه). (يقول المؤلّف إن جنبلاط كان يفضِّل إبراهيم على حاوي).
اختلف فواز طرابلسي مع إبراهيم في تقدير موقف المنظمة في المرحلة الجديدة التي تداخلت فيها مع جسم الحركة الوطنيّة. ضمّ إبراهيم كوادر المنظمة إلى قيادة الحركة الوطنيّة. طغت مصلحة الحركة الوطنيّة (والتي كان لها حسابات مراعاة طائفيّة) على مصلحة المنظمة كتنظيم مستقل. سحب الحزب الشيوعي ومنظمة العمل مطلب قانون الأحوال الشخصيّة المدني الاختياري من أدبيّات الحركة الوطنيّة.
ويشير فواز طرابلسي إلى ظاهرة التعاطف الإسلامي مع الثورة الإيرانيّة، والتي أصابت عدداً من كوادر المنظمة مثل جوزيف سماحة. وبدأت نغمة إدانة الحرب الأهليّة ونبذها من الأساس. جهاد الزين أدان «الحرب القذرة جداً» (ص. ٢١٣).
أمّا مارون بغدادي فأعلن في مقابلة مع حازم صاغية في «السفير» أن «أكبر كارثة وقعت على العرب هي الماركسيّة واعترف بأن سلطة البروليتاريا تخيفه أكثر من أي سلطة أخرى» (ص. ٢١٥).
وفي خضم التغييرات الأيديولوجيّة الهائلة في صفوف قادة ومثقّفي المنظمة، يتعاظم دور الإعلام الخليجي، فيقول طرابلسي عن حازم صاغية: «فها إن حامل لواء العداء الذي لا يرحم للتجزئة الاستعماريّة، الذي يصف الكيان اللبناني بأنه مجرّد امتداد للكيان الصهيوني، ينقلب إلى لبنانوي كياني… بعدما انتقل إلى الصحافة المُمَوَّلة من أمراء النفط السعوديّين».
(يتبع)
صحيفة الأخبار اللبنانية