فن و ثقافة

في ذكرى مئويته : فاتح المدرس أستاذي الذي وصفني بالجاهل !

 

من المثير بالنسبة لي في تفاصيل حياتي أن الفنان الكبير فاتح المدرس كان أستاذي، وعندما قام بتدريسي فن (الإخراج الصحفي)، كنت أجهل الكثير عن شخصيته، بل إن جهلي في الفن التشكيلي ومدارسه جعلني أخوض مشاحنات طريفة معه حول لوحاته، وأخبره أن لوحاته تشير إلى أنه مازال طفلا، وعندما اتسعت مداركي فهمت أن أستاذي كان واحدا من عباقرة العالم بالرسم !

وقد يستغرب البعض أنني تعلمت منه مسألة أخرى ، ولا أدعي أنني أجيدها، وهي أنه كان يحلل تواقيع القراء في صحيفة تشرين في زاوية خاصة في السبعينيات من القرن الماضي، والطريف أن فاتح المدرس، كان يقسو عليّ في تقييمه، ويخبرني أنني جاهل في الفن التشكيلي وكان محقا، لكنه لم يكن يعلم أنني كنت أعد للنشر أول مجموعة قصصية ، وربما لو عرف ذلك لكانت الصداقة بيننا أعمق مما هي بين طالب وتلميذ لا يمتلك ثقافة عن الفن التشكيلي في العالم .

 

 

انقطعت عنه زمنا طويلا قارب العشرين عاما، وعندما دُعيت كصحفي إلى الحوار الذي جرى في «غاليري أتاسي» بدمشق عام 1998، بينه وبين الشاعر الكبير علي أحمد سعيد (أدونيس)، انتابني شعور آخر، فأنا في حضرة شخصيات كبيرة من بلدي، وكنت أجلس على حافة الدرج في القبو الذي تتصدره القاعة التي غصت مع فسحة القبو بالحضور، وكان بينهم الشاعر الكبير محمد الماغوط، والفنان أسعد فضة ، اللذين يجمعهما مع أدونيس قرابة (العدالة) لأن زوجاتهم هن شقيقات : سنية الصالح، وخالدة الصالح السعيد، ومها الصالح.

حاولت أن أدون الحوار على دفتري الخاص، لكني فشلت لأن متعة الإصغاء كانت أروع بكثير من متعة ممارسة مهنة الصحفي، ولذلك ظلت ذاكرتي  تنبض بمعطيات تلك المواجهة الحوارية التي يرتقي نصها إلى أن يكون مقدمة لتاريخ الفن والأدب في سورية، وقد صدر ذلك الحوار في كتاب بمناسبة الذكرى العاشرة لرحيل الفنان الكبير فاتح المدرس بعنوان «حوار: فاتح وأدونيس».

ويقول أدونيس عن الحوار: كان كلانا يحاول أن يصنع من اللاشيء شيئاً: من القشرة لُباً، ومن الترابِ ورداً، عاملاً على أن يجعلَ من فنه شكلاً لحياته. هكذا كان نتاجُ كلَينا بمثابة مسرح لعُري الحياة وبهائها، في ما وراء ثيابها الممزّقة، وجسدها المليء بالجراح».

ووجدت نفسي أتوقف أمام خطابين وردا في الحوار، رأيتهما أعمق نص يمكن الركون إليه ومراجعته بعد مرور نحو نصف قرن على تعرفي بالفنان الكبير فاتح المدرس ، حيث يقول أدونيس في سياق الحوار : فإذاً البصر لا يكفي وحده ولا بد له من بصيرة لكي يحيط، نسبياً حتى، بالشيء، لأن الشيء لا يستنفذ. كيف توحد، أو ما هو الشيء الذي يصل بالنسبة لك بين البصر والبصيرة؟

 

فيرد فاتح المدرس : فهمت عليك تماماً. سؤالك واضح. هنالك في العالم الإنساني أشياء اسمها التحول أو الرؤية من جديد، أو التجديد. هنالك أناس مارسوا هذا النشاط، تجديد الأشكال، تحويل الأشكال. ربط الشكل الموجود، لأنه موجود ولا داعي لتثبيته مرة أخرى. نحن لا ننتج وثائق موجودة سلفاً في الطبيعة، نحن ننتج عوالم جديدة. هذه المهمة يا أستاذ أدونيس تمارسها أنت كذلك كل يوم في حياتك لأنك تكتب بلغة جديدة وصور جديدة ومشاعر ذاتية جداً تختلف عن الآخرين.

ثم يقول أدونيس : إذاَ نستطيع أن نقول إن الفنان الحقيقي حينما يرسم وجهاً أو شجرة لا يرسم الوجه المرئي أو الشجرة المرئية، وإنما يرسم وجهاً داخل هذا الوجه يراه هو، ويرسم شجرة داخل هذه الشجرة يراها هو، والذي أسميته أنت بالشكل الآخر.

فيرد فاتح المدرس : أنا فهمت مما قلته من لحظة يا أدونيس أنك تعطي تفسيرات لشعرك…

وعندها يقول أدونيس : لأنه توجد علاقة قوية بين الشعر والرسم.

نشرت بالتزامن مع مجلة الأسبوع الأدبي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى