أطياف

قرن الإرهاب والحركات المتطرفة

قرن الإرهاب والحركات المتطرفة… سؤال فكري عاصف يواجه كل واحد منا، حين يتأمل بإمعان هذه الأجواء السونامية الخانقة التي تخوض فيها غالبية البلاد العربية: هل نحن أمام تحول حضاري كبير، سلبي جارف أو إيجابي منعش حافل بالآمال؟ هذا ما لم تتضح سماته ومعالمه بعد، لأننا ما زلنا في غمار الدوامة المشابهة لما مرت بها أوروبا في مرحلة الإصلاح الديني قبل قرون، وسحب العاصفة وأمواج الصراع ما زالت في أوج فورتها واحتدامها، سواء كانت كامنة في حالة استراحة المحارب أو كانت هائجة متحفزة. وتزاد الأجواء قتامة ورهبة حين نرى أن الفكر الإنساني المستنير لما يزل غائبا عن مجتمعاتنا العربية، أو لابدا في سراديب التردد والإحجام، متخوفا أن ينبثق ويحاذر أن يعلن عن بشائر فجره، لأن القوى الخارجية الموعودة باستثمار الغنائم النهائية لما يجري لم تحسم أمرها بعد، ولم تحدد في أي جبهة تلقي بثقلها وترسي موقفها وتبرم قرارها الحاسم؛ وهي قوى لا يمكن التهاون بها أو التعامي عنها، مهما طالت فترة المخاض.

أتأمل هذه الأجواء السديمية المعتكرة، مستحضرا في ذاكرتي معارك الإصلاح الديني واندحار سلطة الكنيسة والإقطاع أمام التحرر وتصاعد سلطان العقل في أوروبا، دون أن أغفل – في هذه المقارنة – عن إدراك تغير الظروف التاريخية والجغرافية والفكرية، بين خصائص السلطة الكنسية الأوروبية وتعقيدات إديولوجيا الإسلام السياسي، سواء في مواقعه الداخلية أو استطالاته الإقليمية من تركيا إلى قطر الراعية لقناة الجزيرة وإطلاق أبواقها الصاخبة في خدمة إديولوجيا التطرف الإسلاموي ودولة الإرهاب الداعشي، فضلا عن الإمبريالية في الغرب الأطلسي. والمثال الحي المضطرب أمامنا يبدو جليا في تونس بين الرئيس التنويري الداعي للعدالة من جهة.. ومن الجهة المناقضة حركة النهضة التي عاش رئيسها مدللا في أحضان الغرب؛ وكل جبهة تنتظر أن يبدأ الخصوم بإطلاق الشرارة الأولى. وربما بدا المشهد السوداني مسرحا شعبيا كبيرا متعدد النجوم من كتاب ومخرجين وممثلين، ولا أدري كيف يتجاهل زعماء المظاهرات والممسكون بخيوطها في مسرح العرائس، كيف يتجاهلون أن قواتهم المسلحة من الشعب وليست مستوردة من المريخ حتى يرفضوا الحوار مع قيادتها، مع أنهم جاهزون للحوار مع مبعوث الإدارة الأميركية!

وقد أتيح لي أن أستمع إلى حديث تنويري عميق للمفكر المصري الجليل د. مراد وهبه، أستاذ الفلسفة في جامعة عين شمس، وهو مؤسس ورئيس الجمعية الدولية المختصة بتراث ابن رشد، يقول فيه: إن 1979 أخطر سنة في القرن العشرين، وهي تحدد تاريخ ظهور الحركات الأصولية المتطرفة وانطلاق أمواج الإرهاب في أكثر من بلد. ويورد عددا من الأحداث العالمية المواكبة، ومنها: دخول القوات السوفييتية أفغانستان، وانتخاب جيمي كارتر الأصولي رئيسا للولايات المتحدة، وقد عمل على محاربة السوفييت في أفغانستان بتسليح طالبان، وكانت الطائرات تنقل الأسلحة من باكستان إلى أفغانستان وتعود محملة بالهيروين، وقد أدى ذلك إلى إدمان نحو مليونين ونصف المليون باكستاني، مؤكدا على ارتباط تجارة المخدرات برؤوس الحركات الأصولية المتطرفة وقادة الإرهاب. وأضاف أن قسا أميركيا أسس في سنة 1979 (الحزب الأصولي المسيحي) لمحاربة الشيوعية والإلحاد والعلمانية. وفي معرض حديثه ذكر أن الرئيس السيسي في مصر قال: إن تجديد الفكري الديني في الإسلام لم يحدث منذ 500 سنة. كما ذكر أن الرئيس الشاذلي في الجزائر كان ميالا للأصوليين ودعا الشيخ الأزهري محمد الغزالي إلى الجزائر العاصمة لتقديم برنامج أسبوعي في التلفزيون، وهذا الشيخ من دعاة التكفير، وهو الذي أفتى بقتل فرج فودة، دون أن تبدي رئاسة الأزهر أي اعتراض!

ويرى الفيلسوف وهبة أن الحضارة تقضي بتحرير العقل من السلطة الدينية التي تتوهم أنها مالكة الحقيقة المطلقة، ومن هنا تبدأ جرثومة التخلف. وفي هذا الصدد، يورد أن الإمبراطور فريدريك الثاني كان في صراع مع البابوية فسأل مستشاريه كيف يمكن أن يتغلب على تلك السلطة الكنسية، فقالوا له: يكفي أن تصدر أمرا بترجمة كتب ابن رشد.. ونحن نتكفل بتحقيق ما تريد. وهكذا استفاد الغرب من مؤلفات هذا الطبيب والفيلسوف الأندلسي الحكيم، بينما حاربه الجهلة وزبانية التخلف وأحرقوا كتبه في العدوة المغربية. وأطرف ما ورد في حديث الأستاذ وهبة أنه دعي إلى السعودية سنة 1997 وفي الحفلة التي أقامها له السفير، سأله: نريد أن نتطور بسرعة يا دكتور مراد، فأجابه الأستاذ مراد: إنكم تحتاجون لمئة سنة. فرد السفير: لا، هذا كثير. فقال المفكر الرصين: أوروبا بقيت 400 سنة (من 1400 إلى 2000) حتى تطورت.. فكيف تحققون التطور بمدة أقل؟.. ثم قال: لنفترض أنكم بحاجة إلى خمسين سنة… فقال السفير: نعم، كيف نحقق ذلك؟ أجابه المفكر الحكيم: يكفي أن تتخلوا عن فكر ابن تيمية وتعتمدوا على فكر ابن رشد… فقال السفير: لا، لا.. كل شيء إلا هذا!

لقد أتيح لي أن أقرأ أهم أفكار ابن تيمية في المكتبة الشرقية في طوكيو (1993-1996) ولم أطمئن لأفكاره المتطرفة، وخاصة ضد المرأة. وفي هذا السياق.. وخلال عملي في مشروع أدب الرحلة الموسوم بـ”ارتاد الآفاق” والذي يرعاه الشاعر الإماراتي محمد أحمد السويدي، أمضيت عدة أشهر في دراسة رحلة ابن بطوطة بتحقيق عبد الهادي التازي، وقمت باستخلاص “حكايات ابن بطوطة” من نص تلك الرحلة. ويذكر ابن بطوطة أنه شهد أكثر من مشاجرة في الجامع الأموي بدمشق بين شيوخ حلقات التدريس. ويروي باستغراب أن ابن تيمية قال في إحدى خطب الجمعة أن الله – سبحانه وتعالى- في آخر الزمان سوف ينزل من السماء الثانية إلى السماء الدنيا كنزولي هذا (ونزل درجات المنبر) وسرعان ما نقل أحد العيون الخبر إلى السلطان فأمر بسجنه حتى مات. وابن بطوطة من فقهاء المذهب المالكي، وهو يكتفي بذكر الواقعة، لكن الغريب أن يمثل (فقيه) إسلامي نفسه بالله – عز وجل- وما زال له معجبون وأتباع يرفعون مقامه إلى مصاف الخلفاء الراشدين، وربما أكثر!

ويؤكد الروائي/ الباحث الفرنسي (من أصل لبناني) أمين معلوف في كتابه (غرق الحضارات) على أن سنة 1979 تعد محطة فاصلة في القرن العشرين، وهو يذكر أحداثا شتى تتقاطع مع ما أورده الأستاذ مراد وهبة في حديثه مع الإعلامي يوسف الحسيني. وكتاب معلوف يستحق وقفة مستقلة، وأدعو جميع الأحبة إلى قراءته، عسى أن نتبادل الآراء فيه.

حاشية لغوية:

الأمواج الساحلية الرهيبة التي تحدثها الزلازل في اليابان تسمى Tsunami ويكتبونها بالكانجي المستعارة من الصينية بهذا الشكل 津波 ويترجمونها إلى الإنكليزية (الأمواج المدية)، وكنت أميل إلى ترجمتها (الأمواج السنامية) من سنام الجمل، لمقاربة اللفظ ودلالة المعنى. والكلمة مركبة من مقطعين Nami ومعناها أمواج أو موجة (للمفرد والجمع شكل واحد) و Tsu ومعناها: مرفأ أو ميناء، وساحل مجازا. وهذه الحاشية لإيضاح الصفة الواردة في عبارة (الأجواء السونامية) في السطر الأول من هذه الخاطرة.

بوابة الشرق الأوسط الجديدة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى