قلق إسرائيلي: الانسحاب الأميركي يرسّخ التهديدات

 

يتجاوز القرار الأميركي بالانسحاب من شمال سوريا كونه انسحاباً من منطقة محددة إلى كونه محطة مفصلية ذات تبعات استراتيجية على مستوى المنطقة بأطرافها والمتدخلين فيها، وفي المقدمة إسرائيل التي راهنت حتى الأمس القريب على ترسيخ وجودها وتعزيز أمنها استناداً إلى الوجود الأميركي المباشر. وليس مبالغة القول إن إسرائيل من أكثر الأطراف اهتماماً بالانسحاب، وبمستوى يزيد على اهتمام الأميركيين أنفسهم، ربطاً بتبعات ذلك على مجمل الوضع الإسرائيلي والبيئة الاستراتيجية في الإقليم وما وراءه.

أولاً خسرت إسرائيل واحداً من «المغانم الاستراتيجية» نتيجة الحرب السورية، وهو الكيان الكردي الذي تنظر إليه حليفاً طبيعياً لها وأهم ما تبقى من مشروع تقسيم سوريا. فالوجود الأميركي كان الضامن لهذا الكيان الذي كان بدوره مرشحاً لتوسيع رقعة الإقليم الكردي في العراق، والأخير لا تخفي تل أبيب أنه واحد من أهم الأهداف التي عملت عليها منذ الستينيات. وكان يفترض بهذا الكيان أن يشغل أعداء إسرائيل عنها، مع تكاتف وتضامن بينها وبينه لإضعاف الدولة السورية. وإذا أخفق مشروع الغزو التركي كما خطط له، ستكون الخسارة الإسرائيلية مزدوجة، إذ إلى جانب خسارة الكيان الكردي، ستتمكن الدولة السورية من استعادة المكانة التي كانت لها قبل الحرب، مع مستوى عداء مرتفع جداً لإسرائيل ومحورها الإقليمي، بل بما يزيد عمّا كانت عليه سوريا قبل 2011.

ثانياً، تخسر إسرائيل جراء التراجع الأميركي رهانها على إمكان منع التواصل الإقليمي بين مكونات محور أعدائها، أي من طهران إلى بيروت مروراً ببغداد ودمشق، مع إدراكها أنها قد تحقق وحدها هذا المطلب عبر النيران عن بُعد. لكن هذا التواصل بات أكثر رجحاناً، وسلبية على تل أبيب التي حذرت منه دوماً، خاصة أن الإمكان المادي للتواصل الإقليمي كان مرجحاً في ظل الوجود الأميركي المباشر، فكيف به في حال الانسحاب!

ثالثاً، يؤدي الانسحاب و«الفذلكة» الأميركية حوله كما وردت على لسان الرئيس دونالد ترامب، وتحديداً نظرته إلى قضايا المنطقة بوصفها لا تهم بلاده، إلى تراجع في موقف «الحلفاء» الخليجيين ممن راهنت تل أبيب على إمكان دفعهم إلى اتحاد عدائي مقابل طهران يؤسّس عليه لترسيخ مكانتها ووجودها والتطبيع معها بعيداً عن فلسطين، فضلاً عن أن الرهان على هذا الحلف يرتبط، بغض النظر عن رجحانه واقعاً، بتشكيل حلف إقليمي معلن يعمل لصدّ الجمهورية الإسلامية. والآن التراجع الأميركي يدفع أكثر الدول الخليجية إلى التراجع القسري عن مواجهة طهران، ويسهم في ترحيل إعلان تطبيعها الكامل مع إسرائيل، علماً بأن المنطقة كانت تتجه، وإن مع تردد، إلى موازنة أفعالها وإعادة دراسة تموضعها إزاء إيران حتى لو قسراً. والانسحاب الأميركي بدلالاته من شأنه الدفع أكثر إلى تليين المواقف والامتناع عن الاندفاع أكثر في الترجمات العملية للعداء ضد إيران.

رابعاً، يظهر الانسحاب الأميركي بُطلان رواية «الحلف المقدس» بين ترامب وإسرائيل، بمعنى الحلف الأعمى المستند إلى إعلاء مصالح إسرائيل بما يزيد على المصالح الضرورية لحليفتها كما تراها واشنطن وبما يتناسب مع رؤيتها. ورواية نتنياهو واليمين الإسرائيلي، التي تشدد على انقياد الإدارة الأميركية الحالية شبه المطلق لتحقيق المصالح الإسرائيلية كما يراها هذا اليمين ومن دون حدود، تعد واحدة من أهم عوامل قوة تل أبيب في مواجهة أعدائها وصدّهم عنها، ليس فقط في المساهمة في صدّهم عنها من موقع المبادرة إلى استهداف إسرائيل، بل أيضاً في صدّهم عن الرد على اعتداءاتها أو التمادي في ردّهم. والانسحاب من سوريا، الذي لا يتعارض مع رؤية اليمين الإسرائيلي فقط، بل يشمل كل القوس السياسي في تل أبيب، من شأنه أن يبطل نسبياً مستوى الإطلاق في مفهوم الانقياد التلقائي للمصالح الإسرائيلية لدى الإدارة الحالية، وهو الأمر الذي راهنت عليه إسرائيل واستخدمته بإفراط، بوصفه واحداً من أهم عوامل قوتها في وجه أعدائها.

خامساً، شكّل الوجود الأميركي في سوريا رافعة الضغط الأساسية في إيجاد معادلة كانت تأمل تل أبيب أن تؤدي إلى أهم مصلحة أمنية لها: إخراج إيران من سوريا. فالانسحاب الأميركي كان موضوعاً على طاولة البحث مع الجانب الروسي، وبشكل غير مباشر مع الدولة السورية، ضمن سلة مطالب وفي مقدمتها «طرد» إيران. مع ذلك، يعدّ فقدان إسرائيل ورقة الوجود الأميركي العسكري وطرح التبادلية معها في وجه إيران خسارة مزدوجة أمام الإيرانيين، إذ إنها تظهر لطهران اليأس الأميركي من إمكان التوصل إلى معادلة التبادلية، أي خروج أميركي مقابل إخراج للإيرانيين، والأسوأ أن تفهم طهران والدولة السورية والجانب الروسي أن تراجع واشنطن مبني على أسس تراجع كلي عن المنطقة.

مع ذلك، تصعب الإحاطة الكاملة بالتبعات السلبية للانسحاب الأميركي على المصالح الأمنية وغير الأمنية لإسرائيل، خاصة أن القدرة الإسرائيلية نفسها هي نتيجة جمع بين قدرة مادية، بطبيعة الحال لا يستهان بها، وبين عامل مادي ــــ معنوي مرتبط أيضاً بنظرة أعداء إسرائيل إلى المدى الذي يرونه في اصطفاف الولايات المتحدة إلى جانبها، ما يعني أن النتائج السلبية للانسحاب لن تقتصر على المنظور والمقدّر منه. وسط ذلك، وصف مصدر أمني إسرائيلي رفيع المستوى، كما نقل عنه موقع «المونيتور» بنسخته العبرية أمس، أن «ميزان القوى الاستراتيجي يتغيّر أمام أعيننا، فكل الأشرار انتصروا والأخيار يرحلون. وعلى إسرائيل أن تتعامل وحدها تقريباً مع المحور التركي ـــــ الروسي ـــــ الإيراني، البالغ القوة».

صحيفة الأخبار اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى