كتب

كتاب “الجسد والنظرية الاجتماعية” لكرس شلنج

كتاب “الجسد والنظرية الاجتماعية” لكرس شلنج حيث يحتوي  على ثلاث مقدمات شغلت حوالي 40 صفحة من المهادات النظرية المرتبطة بالجسد والعلم وتطوراتهما في الخدمة الجمالية والاجتماعية التي أصبحت من ضرورات النوع العصري ومقتضياته، في حداثاته المترابطة التي انشغل بها السوسيولوجيون والجرّاحون والنفسيون في معاينة ومعالجة الجسد البشري، بوصفه حاملاً للقيم الاجتماعية والتاريخية.

هذه المقدمات التي كتب أحدها المترجمان، جاءت لتعرّف بالكتاب على أنه “دراسة نقدية متميزة لمحاولات رد البيولوجي في الظاهرة الجسدية الى الاجتماعي، ورد الاجتماعي فيها الى البيولوجي” وهو “محاولة لاستعادة الجسد كياناً فاعلاً في المجتمع”، بينما كتب المقدمتان الأخريان المؤلف ذاته. إذ جاءت المقدمة الأولى (وهي خاصة بالطبعة الثانية) مشيرة الى أن منشورات كثيرة من البحوث والدراسات أعقبت الطبعة الأولى في موضوعة الجسد، الذي عدّه الباحث من المواضيع “الغريبة” التي تحظى باهتمام “الخيال السوسيولوجي” كونه – الجسد – ممثلاً للاجتماعي – الثقافي، وبالتالي فقد خضع ويخضع إلى دراسات أكاديمية وبحثية ، لتعزز من وجوده الفعلي في الدراسات الاجتماعية والأنثروبولوجية والتاريخية واللاهوتية والدينية والثقافية والنفسية والفلسفية، كونه مجالاً خصباً للنظريات الاجتماعية والسيكولوجية التي ترى في طبائعية الجسد خرائط متعددة لصيرورته وبنائه التاريخي، من حيث الخصائص الجوهرية فيه التي تتناغم مع معطيات العصور المتعاقبة، كونه لا ينفصل عن الحاضنة الاجتماعية بتاريخيتها القديمة، وتطوره بحثياً مع الفروقات الزمنية واكتشافاتها.

وتأتي هذه المقدمة للوقوف على فصول الكتاب وجديدها البحثي في أهمية الدور المركزي للجسد المادي، في وجوده ضمن الحاضنة الاجتماعية بأعرافها وسننها وقوانينها، مما يستدعي تحديث النص الأول في طبعته الأولى في الأخذ بالمستجدات البحثية الجسدية، والوقوف على المقاربات التالية التي أخذت من الجسد موضوعاً وبحثاً ودراسة، وتنظيراً اجتماعياً ، ليكون هذا الموضوع (الغريب) أصيلاً في الأكاديميات ومراكز البحوث وما تتطلبه الرسائل العلمية العالية من دقة وتوثيق في المُدخلات النظرية التي عالجت موضوعة الجسد.

أما المقدمة التالية للمؤلف، وهي الأطول، والأكثر مساحة علمية في تهيئة النظرية الاجتماعية والبيولوجية، لتضمن أن للجسد منزلةً متغيرة في علم الاجتماع، وهو ما راعاه كرس شلنج بحجة منطقية، عندما طرح تحليلاته على “أنه في ظروف الحداثة العالية أصبح الجسد تدريجياً محوراً مركزياً في فهم الشخص الحداثي للهوية الذاتية” وعلى وفق هذا تم تصميم هذا البحث الطويل بفقراته الكثيرة، ليكون “إسهاماً نظرياً في مجال سوسيولوجيا الجسد” وبذلك يكون تصميم الكتاب على النظريات الاجتماعية المتشعبة في حيثياتها العلمية والجمالية (لأتقصى منزلة الجسد المتغيرة في علم الاجتماع).

وهذا التقصي الطويل هو الذي سيضعنا مع المؤلف على طريق الجسد البشري، الذي يشهد تصاعداً مكثفاً (على اهتمام الجمهور للجسد) مثلما تنشغل به وسائل الإعلام من صحف ومجلات وتلفزيون، ونحن نتماهى مع عصر إعلامي معرفي؛ كما تنشغل به سرديات الجراحات التجميلية، ووصفات إنقاص الوزن للرشاقة وشفط الدهون وشد الوجه وتجميل الأنف، في كيفية “جعل الجسد فتياً، ومثيراً، وفاتناً” هذا على الصعيد الخارجي – الشكلي الوصفي. لكن شلنج لا يبحث على هذا الصعيد حسب، بل يرى أن ممارسة الرؤيا الواقعية لعوامل الجراحة بنقل الأعضاء الجسدية، أو إيجاد بدائل لها في التقنيات الطبية المعاصرة، ثم إلى العلم الافتراضي العجيب عندما “يصبح إنجاب الأطفال بمقدور نساء لم يسبق أن مارسن الجنس” قبل أن يذهب إلى عصور الحداثة الأولى، لإيجاد خلفية ثقافية مناسبة، تستوجب أن تكون معرفية، وهي تشير؛ فيما تشير إليه؛ إلى “أنماط ونظم الحياة الاجتماعية التي ظهرت في أوربا ما بعد الإقطاع، والتي تصاعد تأثيرها على مستوى العالم في القرن العشرين” في جدل عريض حول تلك العصور التي أسهمت تدريجيا “في سلب قداسة الحياة الاجتماعية” بعدما تم إركان “اليقينيات الدينية” وحلت محلها “اليقينيات العلمية” التي جاورت سمات الحداثة التكنولوجية والصناعية، بعيداً عن المؤثرات الدينية “الصورية” التي تحاول؛ بقصد أو غيره؛ أن تعطل اليقينيات النفسية البشرية، لتعزز في الغرب “يقينيات وجودية وأنطولوجية تقبع خارج الفرد” وهذا ما يتطلب النظر إلى الجسد؛ كونه “حاملاً لقيمة رمزية” أن يتماهى مع العصر الحاثي بمستجداته لتأكيد و”تشكيل الذات” بعيداً عن سرديات الدين والسياسة، فهو “يؤمّن أساساً صُلباً لإعادة بناء معنى للعالم الحديث” بعيداً عن التباس الأجساد أمام تاريخيتها وواقعيتها الاجتماعية، لتكون مشاريع مستحدثة علمياً وبحثياً.

في الغرب يُعد الجسد “مشروعاً يتوجب العمل فيه وإنجازه بوصفه جزءاً من هوية الفرد الذاتية” وهذا المشروع الجسدي الذي يُعمل عليه منذ فترة غير قصيرة، من دون النظر إلى حجمه وشكله ومحتواه وباطنه وظاهره، من الرغبات والشهوات والحركات قابل “للبناء” كمورد شخصي لحامله. وتوطين ماهيته الاعتبارية بالتجميل أو سواه من الجراحات القابلة على توثيق هذه الفكرة، كبناء اجتماعي، يشي بثقافة الشعوب واحتوائها على منجزات الحداثة الطبية والعلمية. وصولاً إلى “اللغة والوعي” كما يرتئيها علم الاجتماع على أنهما “قدرات جسدية” أيضاً.

ومن هذا التداخل النظري الذي نحاول أن نلتقط أهم فقراته، يمضي شلنج لتنفيذ خطته البحثية على وفق بضعة أهداف رئيسية في تناول علم الجسد اجتماعياً، تحت سؤال مركزي: ما الذي يكشف النقاب عنه بخصوص الجسد وما الذي يسكت عنه؟

الجسد الاجتماعي

حتى وقتٍ قريب لم يكن علم الاجتماع يحفل بموضوعة الجسد بشكل جدي. وأن المنظرين “لم يُمفْهموا الجسد على اعتبار أنه أساسي للفاعل البشري”، وظلت كلاسيكيات علم الاجتماع تناور حول المفهوم العائم للجسد، لذا فإن المهمة الملقاة على عاتق المؤلف هي وصفه لـ”منزلة الجسد المزدوجة في علم الاجتماع” لاقتفاء “أصول ظهور الجسد موضوعاً للدراسة”، وقد تكون تراتبية هذا الاقتفاء هي تاريخية على الأرجح في تطور الكائن البشري عبر التاريخ، وما استلزمه من دراسات وبحوث لتوثيق تطور سلوكه، وتهيؤه النفسي لأن يتماهى مع الطبيعة والحياة العلمية.

ولعل المثال الجدير بالانتباه هو تحليل عالم الاجتماع بورديو حول “مترتبات التعليم الجسدية” بضمنها الكيفية التي تتجسد بها تنمية رأس المال الثقافي للأطفال ومحورية الجسد الطفولي في التنشئة والتعليم الأولى، باعتبار أن هذا الرأسمال الثقافي ضامن للوجود المستقبلي على أسسه العلمية الصحيحة، ويمكن لنا أن نجترح الجسد المروّض لمثل هذه العيّنات الطفولية، فتعليم الأجساد فرصة للمدارس أن تهيئ عقول النشء الصغير إلى مستويات أعلى بكثير، مما هي عليه في واقع الحال.

ولم يكن بورديو وحده في هذا الميدان الاجتماعي، بل هناك مارسيل موس الذي أوضح بأن لدى الثقافات “أساليب خاصة بالجسد” وماركس فيبر المعني بأبحاثه “في الأخلاقيات البروتستنتية” وأميل دوركايم وبراين ترنر، وغيرهم من الآباء المؤسسين الذين اشتغلوا على ثيمة الجسد من منظور اجتماعي محض، ومعظمهم كانوا يرون فيه تاريخاً “مهمشاً” بإغفاله من تصدر الدراسات والبحوث السوسيولوجية. وكان على الأعمال البحثية والدراسات الاجتماعية الجدية أن تنتظر ثمانينات القرن الماضي، لتظهر أسماء جديدة من علماء اجتماع ينظرون الى أهمية الجسد، كأونيل وترنر وفرند وفرانك، ومما يذكره المؤلف من مجلدات في هذا الميدان، أسهمت بشكل ما في النظر إلى الجسد بأكثر من أهمية، وألاّ يكون “مخفياً” سواء أكان جسد ذكر أو أنثى. بالنظر إليها كـ”ملكيات فردية” غير منفصلة عن الهويات الشخصية، لاسيما أجساد النساء التي شهدت مع مطالع القرن العشرين اهتمامات استثنائية لـ”استعادة” أجسادهن، بوصفها قضية اجتماعية خالصة.

وهذا سمح لموجات نسائية أن تثير ظهور الثقافة الاستهلاكية “المرتبطة بالتغييرات الرأسمالية الحديثة” إضافة إلى ما شكلته هذه التجمعات من “استخدام الجسد أداة للفعل والاحتجاج السياسي” لتظهر موجات إعلامية مناصرة للنسوية، بأبحاث دقيقة في “تسليع جسد المرأة في المواد الإباحية، والاغتصاب والأمومة البديلة” بوصف شلنج إلى أن المرأة “أكثر جسدية” من الرجل؛ مثلما لُفت الانتباه إلى كبار السن في المجتمعات الغربية؛ مع تزايد النمو السكاني؛ ومسؤولية الدول لحماية أجسادها من الأمراض المحتملة. وعلى  كل هذا وغيره فإن “عقلنة الجسد” كان أحد المفاتيح الرئيسية التي أولاها علم الاجتماع الحديث اهتمامه، متوازياً مع الجراحات والتطبيب بغرض التحكم الفعلي بالأجساد، وتوطيد الهوية الذاتية للأشخاص.

الأجساد الطبائعية

الشرعية التي يتحصلها الجسد بشرعيته البيولوجية تعني أيضاً الرؤى الطبائعية والجنسية المختلفة له، منذ القرن الثامن عشر، في ممارساتها عن الكيفية التي يُدرك بها “علاقة الجسد بالهوية والمجتمع” وهذا يتطلب استعادة التاريخ منذ العصور القديمة حتى حوالي القرن السابع عشر، حينما “اعتبِرت المرأة رجلاً أدنى مرتبة” بسبب “وظائفها التناسلية” وأنها كانت “داخل الجسد ولم تكن خارجه” وهذا ما تشي به ثقافة تلك القرون الماضية التي كانت تتعامل مع المرأة بشكل ثانوي وهامشي، من دون التعريف الكافي والكامل لـ”الهويات وأدوار الأجساد الذكورية والأنثوية” وهذا ما جادلت به لودميلا جوردنوفا؛ في جغرافية الجسد ومكوناته بين الجنسين. وحتى نهاية القرن التاسع عشر تم إيضاح تقسيم “بنية ووظيفة جسد الرجل والمرأة” مع التفسيرات غير الهاضمة للبنية الوظيفية الطبيعية لجسد المرأة، حتى في القرن العشرين حينما كان التفسير الجندري يرى بأن “وضع المرأة الاجتماعي مشتق من وظائف جسدها التناسلية” وأن المسيحية عدّت الجسد “ضعيفاً وخطّاءً وفي حاجة إلى تحكم وضبط العقل” وهذا ما انسحب على ذوي البشرة السوداء في تفصيلات كثيرة لا يتسع الحيز لإيرادها ومناقشتها. سوى الإشارة إلى الأجساد المشوهة التي تحكمت بها وصايا السياسة والأديان والمجتمعات البطرياركية، بوصفها أجساداً مستقبِلة وليست منتجة، على أن الرؤى الطبائعية تظل مرفوضة من قبل علماء الاجتماع؛ لكن السوسيولوجيين لاحقاً، طوروا من نظرياتهم وأفكارهم وبحوثهم واصفين الجسد على أنه “مستقبِل للدلالات الاجتماعية، عوضاً عن أن يكون منتجاً لها” مما يعني أن علاقته بالمجتمع على قيد النمو التطوري، بتأثيرات من ماري دوجلاس التي رأت في الجسد بأنه مستقبل للدلالات الاجتماعية، بينما ميشيل فوكو وأرفنج جوفمان قد “أحدثا تأثيراً استثنائياً في تشكيل رؤى أشياع البنائية الاجتماعية في الجسد” لاسيما فوكو الذي تتميز مقاربته “بانشغال مكثف بالجسد وبالمؤسسات التي تتحكم فيه” و”كيف يتم شحن الجسد بقوى تحكم الفرد” وأن جوفمان يعد الجسد “مركزياً” في أن يحافظ على العلاقات الاجتماعية “المتعلقة بالهيمنة والخضوع” مثلما يرى بأن الجسد “مكون مادي للفاعل البشري”.

إشكاليات جسدية عامة

حل إشكالية الجسد بأبعادها؛ حسب ترنر؛ هي بالتناسل السكاني عبر الزمن، وفرض قيود على الرغبة كونها مشكلة داخلية في الجسد، وتنظيم السكان مكانياً وتمثيل الأجساد في الفضاء الاجتماعي؛ ويتبنى آرثر فرانك “مقاربة بنيوية للجسد”، ويجادل مالثوس بأن الناس تسيطر عليهم “الحاجة للأكل وإشباع رغباتهم الجنسية” وتطرح البنيوية الاجتماعية رؤى “في كيفية قيام الجسد بدور مهم في التعريف الاجتماعي للنفس” ونظريات مترادفة حول الموضوع ذاته بالكثير من التفصيل، كتشريح الجسد ظاهرياً، وإعطاء كل عضو فيه واجبه الأخلاقي والاجتماعي. مثل اليد التي “وُظّفت منذ زمن بعيد بوصفها حامل معنى” وأن التفوق التاريخي الذي “حققته اليد اليمنى على اليسرى يشكل مؤسسة اجتماعية عبرت عن مثنوية دينية من المقدس والدنيوي” كما يبدأ الوليد حياته “بجهاز عصبي محدد.. يرتبط بدماغ محدد وبأعضاء وعضلات وأجهزة تعبيرية”، والرجال والنساء يختلفون في الطول والوزن والقوة. وتركز أعمال بيتر فرند على “كيف أن خبرة الناس بالصحة والمرض تتشكل وتتحول بسبب علاقات الهيمنة والخضوع الاجتماعية” وكل ذلك يرمي إلى توضيح ماهية الجسد، بغرض إبقائه فاعلاً ككيان مهم في الحاضن الاجتماعي. لهذا يرى الباحثون أن الجسد يحمل بصمات الفرد الاجتماعية “المؤكدة” كما يحمل “علامات الطبقة الاجتماعية التي ينتمي إليها” على أساس تطورات السياقات الاجتماعية ونسقيتها وعقلنتها للجسد، وإيجاد هويته الاجتماعية بتعبير جوفمن، ليستمر البحث عن الجسد بصورته المشتبكة بين النظريات القائمة على تفعيله مع التحولات الحضرية، التي بدورها تفعّل سلوكياته اليومية من استهلاك الطعام الذي يشي بتأثير الذوق على الجسد. وأناقة الملبس ورياضة وتخسيس ونظام متقدم لربط الناس بأجسادها، تحت تأثيرات الشعور بأن للجسد قداسته وأهميته البيولوجية أيضاً، كونه حاملاً لأعضائه الكثيرة الداخلية والباطنية. ليكون له “تاريخه الخاص” مع شخصيته المستقلة، وهذا يقع ضمن استراتيجياته المستحدثة مع النظام اليومي في قوانين السلطات والمجتمعات. ليعرف السوسيولوجيون بأنه كيف يفكر الجسد، وهذه أطروحة نظرية أشار بها للمؤلف الخبيران كسيو لونج وكولن إنجران في أول صفحة من الكتاب.

مجلة الجديد اللندنية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى