لقاءات مع ياشار كمال.. لا تكتبي إلّا بلغتك الأم

ياشار كمال الذي لم يتكلم سوى الكردية والتركية، لم يتوقف لحظة عن السرد أمامي ولم يتعب من السرد. اراد ان يخبرني قصة حياته منذ طفولته، والتي قرأت جوانب منها في كتب ومقابلات. لكن أن اسمعها منه في جلسة شبه عائلية في منزله في اسطنبول له معنى كبير بالنسبة لي. كان على صديق مشترك ان يقوم بمهام الترجمة، وحين يتعب الصديق كان يتوقف قليلا فألحّ عليه كي يستمر في الترجمة لكنه يقاطعني بالقول «ولكن هذه تقريبا نفس القصة التي سردها عليك منذ وقت قصير! «ولو كان»، أقول وأصرّ ثانية على ألّا يتوقف عن الترجمة. بدا الكاتب التركي الكبير الذي تجاوز الثمانين حينها، واثقا انني أفهم ما يقوله من دون حاجة الى مترجم!

في زيارتي الاخيرة لبيته كان قد بدا عليه التعب، لكنه أصرّ على مرافقتنا إلى مطعم مع أصدقاء مشتركين بينهم الكاتب والفنان التركي زولفو ليفانيللي الذي غنّى قصائد لناظم حكمت، غنتها فيما بعد المغنية الملتزمة جوان بايز. في ذلك العشاء نسيت زوجة ياشار كمال الثانية عائشة سميحة بابان التي تتقن أكثر من أربع لغات بما فيها الكردية والتركية أدويته في البيت، فما كان منها الا ان انسحبت لتعود مع الأدوية التي عليه تناولها اثناء الطعام. بدت متوترة بسبب نسيان عابر لم تغفره لنفسها.

في جلساتنا تلك خرجنا بمشروع دعوة ياشار كمال الى لبنان. كان عليّ التحضير لها وأول اتصال قمت به في بيروت كان مع الصديق ماهر جرار وكان حينها مدير برنامج انيس مقدسي للآداب في الجامعة الاميركية، والذي رحّب بالفكرة مبدياً تحمّل البرنامج ما تترتب عليه الدعوة من اعباء.

كان الاتفاق على أن يزور ياشار كمال بيروت في ربيع 2012 الا ان مرضه خريف 2011 ودخوله المستشفى منعاه من السفر. الاتصال معه عبر الهاتف كان يتم عبر زوجته عائشة، والمرة الاخيرة التي سمعت صوته على الهاتف كان عام 2013 حين ترجمت عائشة ما قاله لي «انت ابنتي وابنة تركيا وبيتنا مفتوح لك». منذ 4 سنوات تدهورت صحة الكاتب ياشار كمال وتوقف نهائيا عن السفر. رحلته الاخيرة كانت لتسلّم وسام جوقة الشرف برتبة فارس من الحكومة الفرنسية.

تيلدا

تيلدا سيريرو كمال حفيدة جاك منديل باشا طبيب السلطان عبد الحميد الخاص، كانت لخمسين عاما وحتى مماتها عينيّ وأذني زوجها ياشار كمال في كل ما يتعلق بالأدب العالمي والإصدارات الجديدة.

ترجمت كتبه الى الانكليزية وأهمها روايته الاولى «محمد النحيل» التي فتحت له أبواب العالمية، وأخذت تيلدا على عاتقها مهمة تقديم أدب كمال الى العالم ووضعه في مصاف الادباء الكبار. معها تحول ياشار كمال من كاتب تركي محلي الى اديب عالمي ترجمت اعماله الى اربعين لغة. الكاتب الكردي التركي محمد أُزن كتب عن تيلدا: لولا تيلدا كمال لما سمع العالم بياشار كمال». ما قد لا يعرفه كثيرون أنه منذ موت تيلدا لم يكتب ياشار كمال كثيراً والكتاب الاخير الذي صدر له عام 2010 هو عبارة عن مقالات، نشرها سابقا في الصحف وخاصة في جريدة حريات وجمهوريت.

في فترة زواجه من تيلدا عاش الكاتب في بيت واسع ضمن غابة كبيرة في اسطنبول. كان يكتب لساعات وحين يريد أخذ فرصة من الكتابة يخرج من البيت ويسرح في الغابة. بعد موت تيلدا إثر اصابتها بالسرطان عام 2001، تزوج ياشار كمال من صديقة قديمة له وهي عائشة سميحة بابان من أنسب العائلات الكردية التي تمتد علاقاتها العائلية الى العراق وسوريا ولبنان وانتقلا الى منزل عائشة الذي يقع في اعلى تلة في اسطنبول الاسيوية التي تطل على البوسفور. كان غريبا بالنسبة لي أن أضطر لاستعمال مصعد مفتوح على الفضاء يبدأ من الشارع العام ويقف أمام باب بيتهما أعلى التلة. هذا البيت، بحكم موقعه الجغرافي، لم يسمح لياشار ان يمشي كل يوم كعادته.

في بيته العالي غرفة واسعة للكتابة في وسطها طاولة خشبية عملاقة.

لدى ياشار كمال مزاج حاد في العلاقة مع الأقلام، وفي أدراج مكتبه مئات من أقلام الرصاص التي لم تستعمل بعد. لا يكتب الا بقلم رصاص. قلمٌ رصاصتُه غير مبراة بشكل حاد يضعه جانباً ولا يستعمله. على المكتب الى جهة اليمين مبراة كبيرة لإعادة رصاصة القلم حادةً بعد الاستعمال.

ياشار كمال كاتب الذاكرة الشعبية وحكايات الاكراد الجماعية ورفيق ولادة الجمهورية التركية، اقام في السويد لسنتين بين 1950 و1952 حين ضيّق النظام العسكري الخناق عليه. ولم يرتح من مضايقات واتهامات سياسية عدة، واضطر أيضاً عام 1996 الى المغادرة لبضعة أشهر واللجوء الى السويد من جديد.

تكررت الهجمات الاعلامية المنظمة عليه بعد تدخله لمساعدة السجناء السياسيين المضربين عن الطعام حتى الموت. هجوم من الاجهزة، ومن اليمين، وحتى من اليسار الذي اتهم كمال بمهادنة الاجهزة.

حكمت عليه الدولة التركية بالسجن لعشرين شهرا بعد أن نشرت جريدة دير شبيغل الالمانية مقابلة معه حول القضية الكرديه وبعد مقال آخر في مجلة لندن جورنال حول القضية الكردية، إلا ان الحكم لم يُنفّذ. بعد ذلك اتخذ ياشار كمال موقفا محايدا بعض الشيء في كل ما يتعلق بالمسائل السياسية الحساسة في تركيا وعلى رأسها القضية الكردية. ذلك الصمت السياسي الذي آثره في العقدين الاخيرين من حياته كان بمثابة صمت نهائي لإبداعه الادبي كما لو أن ياشار كمال المبدع مرتبط بياشار كمال السياسي الملتزم.

اللغة الكردية

خلافاً لما يعتقده البعض لم يحسن كمال يوماً الكتابة والقراءة باللغة الكردية. كان يتكلمها فقط، والكتابة بالتركية كانت خياره الوحيد.

لم يتعامل كمال مع هذا الواقع كمشكلة، بل أخذه مثالا حين يتكلم عن صفات الكاتب الملتزم. قال لي ذات مساء «لا تكتبي أبدا بلغة أخرى غير لغتك الام، ذلك انها لن تكون نابعة من اعماقك»، ثم اضاف «ولا تكتبي الا عن الناس الذين تعرفينهم جيدا.. عن ناسك وبلدك وتجارب خبرْتِها من قريب أو من بعيد…» انهى كلامه وقد بدا عليه التعب: «ابقي في بلدك.. لا تسافري ولا تعيشي في الغرب! ولم اكن حينها قد انتقلت الى فرنسا بعد.

عدم اتقان أي لغة عالمية، لم يمنع ياشار كمال من بناء صداقات طويلة الامد مع ادباء عالميين مثل الان بوسكيه الشاعر الفرنسي من أصل روسي والذي التقى بياشار كمال عام 1983 وتوطدت صداقتهما على مرور السنوات. وبدآ بتبادل الرسائل كل بلغته ما بين 1984 و1989 وقد اصدرت دار غاليمار الفرنسية تلك الرسائل على شكل حوار طويل بينهما عام 1992. وفي الرسائل بورتريه غني لياشار كمال الكاتب والانسان.

ومن الطرائف التي رواها لي ياشار كمال أنه خلال إقامته في السويد دعي الى حضور مؤتمر الاشتراكية الدولية وكان من بين الحضور كمال جنبلاط الذي صافحه بحرارة قائلاً: هل تعلم انني من أصول كردية؟ اصبحا بعد هذا اللقاء صديقين متجاوزين حاجز اللغة بينهما.

بدأ كمال ياشار العمل السياسي قبل سن العشرين وبعد أن التقى بالفنان التشكيلي عابدين دينو الذي لعب دورا مهما في مسار الحزب الشيوعي التركي والذي تبنى الكاتب وأدخله في اللجنة المركزية. ساهمت هذه التجربة المبكرة في تحديد هوية كمال السياسية وفي تبلور شخصيته الأدبية.

جمعت بين ياشار كمال وشاعر تركيا الأول ناظم حكمت صداقة متينة، وكان الشاعر الذي يقيم في موسكو كلاجئ سياسي يتصل بياشار كمال يوميا تقريباً، وكان كمال يتساءل عن قدرة الشاعر المنفي على دفع كل تلك التكاليف الباهظة للمخابرات اليومية. وحين سأله ضحك حكمت وقال له إنه يأتي كل يوم الى مقر الحزب الشيوعي في موسكو ويتصل به مجاناً!

ناظم حكمت الذي قضى حياته بين السجن واللجوء، سحبت منه الجنسية عام 1959، واستردها وهو في قبره في موسكو عام 2009. لم تتحقق رغبته في ان يدفن في الاناضول، إذ رفضت عائلته نقل رفاته الى تركيا بعد أن أبدت الحكومة التركية حينها رغبتها في اقامة دفن لائق. منذ قيام دولة أتاتورك وحتى الأمس القريب، لاحقت الحكومات العسكرية مئات الأدباء والمثقفين والفنانين وجردت معظمهم من الجنسية التركية، على رأسهم عابدين دينو الذي اضطر الى ترك بلاده ليقيم ويموت في باريس. ترجمت زوجته غوزين دينو، التي رحلت عام 2013، معظم أعمال ياشار كمال الى الفرنسية. وقد واجه الكاتب الكردي التركي محمد أُزُن والذي أصرّ أن يكتب بلغته الام أي الكردية، اتهامات مشابهة من السلطات وجُرّد من الجنسية، وفرّ الى السويد قبل أن يعود عام 2006 الى دياربكر ويموت بين أهله بسبب السرطان.

قبل أن أودع ياشار كمال للمرة الاخيرة، أعطاني كتبه المترجمة الى العربية والصادرة عن مؤسسة إعلامية عراقية إبان حكم صدام حسين. قال لي مبتهجاً إنه كُرّم في العراق وان الشعب العراقي قرأه وأحبه.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى