فن و ثقافة

مسلسل خريف العشاق : القراءة الأولى، الدخول في الممنوع !

لا يمكن لمن يحاول الكتابة عن مسلسل (خريف العشاق) للكاتبة ديانا جبور والمخرج السينمائي جود سعيد إلاّ أن يدخل بحذر إلى مضمون الأحداث وتفاصيلها ومعانيها، ومن ثم إلى المعالجة البصرية لمشاهده التي امتدت على مدار ثلاثين حلقة. فنحن أمام رواية تلفزيونية أراد أصحابها تقديم رؤية جديدة في المضمون والشكل، ومن حقنا هنا أن نثني على هذا المنجز، أو نحجم عن هذا الثناء. 

ماذا في جعبة المسلسل من أحداث، وما هي العناوين الهامة التي أراد معالجتها؟ وهل استكمل المحاولة بما تستحقه من اهتمام؟!

يحتاج مسلسل (خريف العشاق) إلى قراءتين متوازيتين الأولى سياسية اجتماعية والثانية نقدية فنية، وفي الأولى نذهب تلقائيا إلى صلب الرواية التلفزيونية ومفاتيحها التي تجسدت في ثلاث قصص حب لثلاثة شبان أحدهم شاعر فلسطيني، يتزوجون من ثلاث فتيات من بيئات مختلفة، وبطبيعة الحال لا يتم هذا الزواج إلا بالتمرد على المجتمع والأهل والقطيعة معهم، وهو حدث روائي جذاب تمكن من فتح مسارات أخرى تطرأ عليها تحولات الزمن الآتي.

يتم الزواج، بين بدر (محمد الأحمد) وجولييت (حلا رجب) ، وبين سعيد (أحمد الأحمد) وعايدة (علا سعيد) ، وبين مشعل (لجين اسماعيل) وغريس (ترف التقي) ليفاجئهم المحدد الزمني الأول، وهو حرب تشرين عام 1973 ، فيذهب سعيد إلى الحرب ويصاب فيها بالصمم وينقذه العقيد أبو عبيدة (حسين عباس) شقيق سعيد الذي يتبناه الخال (أيمن زيدان) وهو ضابط مخابرات كبير، فينقل سعيد إلى المخابرات ليتولى رئاسة فرع.

نلاحظ أن المحطة التالية، تنقل الأحداث إلى خطوط درامية جديدة مرسومة بعناية، فتؤدي هذه التطورات إلى تولي مشعل الفلسطيني إدارة الإذاعة إثر خطأ بالاسم، وإيفاد بدر إلى بريطانيا لمتابعة دراسته، وتتولى جوليت منصبا مهما في الثقافة هو منصب مدير مكتب الوزير ، ويُنقل العميد أبو بدر إلى حماه ليتم توريطه في علاقة مع الإخوان المسلمين عبر طبيب يساري، فيزج بالسجن، دون أن تؤخذ بطولاته في الحرب بعين الاعتبار، ودون التأكد من حقيقة هذا التورط (بريء) ..

ماذا تريد الكاتبة ديانا جبور من هذه النقلة في الأحداث؟ الجواب بسيط هو تسليط الضوء على جائحة الفساد الكبير في بنيتي المجتمع والسلطة الذي تلا مرحلة الحرب، وأثره على شخصيات الرواية والتحولات التي تطرأ عليها ، ومن ثم الانتقال إلى مصائر جديدة لشخصيات الرواية .

هذه المصائر الجديدة ذهبت فيها الأحداث إلى منعطفات من أخطر المنعطفات التي مرت فيها سورية والمنطقة، بدءا من أحداث حماه بين السلطات والإخوان المسلمين التي نتعرف عليها من خلال علاقات العميد هلال في حماه ، مرورا باجتياح لبنان عام 1982 وحصار بيروت التي نتعرف عليها (عبر لقطات مختصرة) بعد سفر مشعل الفلسطيني إلى بيروت، ثم تفكيك بنية الفساد التراكمية التي تؤدي إلى انكشاف جوهري في الشخصيات وانهيار المنظومة القوية التي بنتها السنوات الأولى للحرب وما بعدها وقوة الأجهزة التي يمثلها (الخال) ومن ثم انتحاره (!!) بمسدس في مكتبه.

وبموازاة ذلك، سعت الكاتبة إلى رسم معادل جذاب يتعلق بمعاناة المرأة السورية، وهي تحاول أن تتمرد على التقاليد، فإذا هي أمام معاناة أكبر من المتوقع (التباين الطائفي والديني، جذور التخلف، المجتمع الذكوري والعقلية الشرقية)، ولم تتمكن قصص الحب من حمايتها، فتقع جوليت في مأساة التناقض بين البيئتين، ثم في نوع مدمر من الغيرة عند الانثى التي تعتقد أن زوجها (حبيبها) يخونها في بريطانيا عند امرأة سكن عندها مجانا، دون أن تتأكد من هويتها (عجوز مشلولة)، فتتحطم أوهام الحب عندها، وتعجز الأحداث التالية عن ترميمها..

كذلك تقع عايدة بفخ لم يكتشفه زوجها حتى نهاية المسلسل هو ابتزازها من قبل (الخال) الذي تقبل بممارسة الجنس معه من أجل أن يساعد زوجة العميد هلال على زيارته في السجن، وتكتشف غريس بالصدفة علاقة زوجها مشعل مع امرأة في البيت، وتنهار قصة الحب الرومانسية بينهما والتي كانت متوقعة على أرضية عدم مقدرة غريس على الحمل (العقم)..

كذلك، تبرز شخصية هيفاء (صفاء سلطان) لتمثل المرأة النموذج، وهي زوجة معتقل تعيش مرحلة كفاح صعبة وتحافظ على أسرتها وأصالة علاقاتها الاجتماعية إلى أن يخرج زوجها من السجن، رغم حالة الصرع التي يعاني منها ابنها.

إذن نحن أمام سياق بانورامي لتفكيك البنية الاجتماعية والسياسية السورية، عبر ثيمات مدروسة محملة على محاور درامية (الحب، الخيانة، الفساد، السلطة، الصراع السياسي، الحرب، المال..)  وعجز هذه البنية عن حل مشاكلها (انتحار الخال) .

هل نثني على هذا المنجز، أم يحق لنا حجب الثناء عليه ؟

إن (خريف العشاق)، يحقق منجزه الأول والأساسي في أخطر مرحلة في التطور السياسي والاجتماعي في سورية عبر مخاطبة مرحلة السبعينات وماتلاها وصولا إلى مطلع الألفية الثانية. وهذه النوع من المخاطبة كان جريئا وناضجا في آليات المعالجة، وكان من أهم ميزات العمل، خاصة أن الكاتبة لم تغفل الرؤى السياسية المتناقضة لمسار الأحداث، وأوردتها على لسان الشخصيات وإن كانت مبتورة أحيانا (للتحايل على الرقابة) فتعرفنا على وجهات نظر للسلطات والأجهزة والإخوان المسلمين والعلمانيين، وتعرفنا على العقبات التي تواجه أي نزوع تنويري أو عقلاني، وعلى أن التضحية والبطولة لا تغفر الخطأ السياسي وهذه واحدة من أكبر أخطاء تلك المرحلة، لكن أخطر مافي هذا النص، هو غياب المعالجة أو الحل، وكأن الأقدار وحدها كفيلة بالمحاسبة، وهذا يضعف أي رؤية تتعلق بالمستقبل، أو فإن النص (كرواية تلفزيونية) ينجح في التشخيص، ويهرب من وصفة العلاج، وليس المقصود هنا وضع برنامج سياسي للحل، وإنما البحث عن معادل درامي يحمل رؤية ما تجعلنا قادرين عن فتح حوار جدي /نقدي / سياسي واجتماعي ووطني حوله.

لقد غابت الرموز الصعبة عن هذه الرواية التلفزيونية، وتمكنت من تقديم مقولاتها بيسر، وكان يمكن أن تكون أكثر وضوحاً، لو أن المشاهد التي حددت المفاصل التاريخية كانت أوسع، وخاصة أن الإشارة لحرب تشرين وأحداث حماة واجتياح بيروت هي أكبر بكثير من إشارات بصرية وحوارات مجتزأة يجهل المشاهد العادي تفسيرها أو فهم المعاني الكبيرة التي تحملها، وهذا ما سنفصله في القراءة الثانية التالية.

 

بوابة الشرق الأوسط الجديدة

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى