
أفكّر كثيراً هذه الأيام كيف أنّ التشكيل اللغوي للواقع هو مَن يصنع معانيه، وكيف أنّ علامات ترقيمه هي مَن توضّح سياقه، فإذا ما أُعيد تشكيل الكلمات في جملة ما أو أُضيفت إليها فواصل أو نقاط توقّف؛ فإنّ تلك الجملة ستتغيّر حتماً، حتى وإن بقيت محافظة على كلماتها ذاتها. وبما أنّ طريقة الصيّاغة قد تغيّرت فإنّ الصورة الذهنيّة التي تتكوّن في أذهاننا عن تلك الجملة لا بدّ وأنّها ستتغيّر أيضاً.
البارحة كانت إحدى صديقاتنا تحدّثنا عن كونها تشعر بالحيرة فيما إذا كان التخصص الطبّي الذي حصّلته بعد صدور نتائج المفاضلة الماضية هو الأنسب لها أم لا، كانت تتنقّل خلال الحديث بين تخصصات عدّة غير اختصاصها وتحدّثنا عن إيجابيّاتها وعن كلام الناس المحيطين بها عنها. كان يبدو بأنّها مستاءة من كيفيّة ترتيبها لرغباتها رغم أنها حدّثتنا بأنّها أخذت وقتها في التّفكير والاستفسار عنها جيّداً قبل أن تكتبها. لم أجد بأنّ ما تشعر به صديقتي هو شعور عادي ولا سيما بعد مرور وقت طويل على صدور النتائج، كنت أتفهّم إحساسها بالتّشويش وعدم الارتياح ولا سيّما أنّها ممّن يتأثّرون كثيراً بأفكار المجتمع العشوائية والمبعثرة هنا وهناك، لكنني في ذات الوقت كنت أجد بأنّ التخصّص الذي حصلت عليه مناسب لها كثيراً، وفي الحقيقة – وحسب معرفتي المتينة بشخصيتها- كنت أعلم بأنها لم تكن لتضعهُ ضمن رغباتها لو لم يكن يتلاءم مع ما تحبّه حقّاً. أخذنا نتحدّث طويلاً عن الموضوع من كلّ زواياه وسعدت كثيراً في نهايته بأنّ غمامة الضيق التي كانت تغطّي تعابيرها كانت قد انزاحت تماماً، وتأكّدتُ أنّها بخير عندما قالت لي ممازحة: “يمامة انتِ لازم يكون اختصاصك تحبيب الناس بحالن وبالشي اللي عندن ياه.”
لم يكن هناك سحر فيما قلته لها أو فيما أعتاد قوله لجميع مَن حولي، كلّ ما في الأمر أنّني أقول ما أريد له أن يكون حقيقة، فكما يقول الفيلسوف الفرنسي فوكو “اللغة سُلطة”، فنحن من خلال تراكيبنا اللغوية المختلفة لا نوصّف أنفسنا وما حولنا وحسب؛ بل نعيد تشكيلهما من جديد بصياغتنا الخاصّة، وهذا تماماً ما أحاول فعله دوماً، ولا سيما عندما أحدّث النّاس عن أزماتهم.
أحبّ أن أحيك لهم الوشاحات الصوفيّة التي يحبّون أن يرتدونها، وأستمتع وأنا أفصّلها لهم بعناية على مقاس أحلامهم، وبالألوان التي يشعرون أنّها تليق بهم، وبالتصاميم التي أعلم بأنّها تروقهم. أنا بذلك لا أكذب عليهم، فأنا بالفعل أتخيّلهم يرتدونها وأنا أحيكها، أتخيّلهم سعداء مرتاحين يشعّون جمالاً وألقاً.
نعم، إنّ في اللغة مفاتيح هذا العالم يا سادة، أنا أؤمن بذلك حقّاً وأؤمن بأنّ ما نحنُ عليه هو ما سبق لنا أن قلناه، وبأنّ ما نقوله هو ما سنصبحُ عليه. آمنوا معي بذلك وسترون كيف أنكم ستجيدون حياكة قصّةٍ جميلة من خيوط هذه الكبّة الصوفيّة المعقّدة، التي تُسمّى العالم.
بوابة الشرق الأوسط الجديدة