
صدرت عن «دار العين» في القاهرة رواية «صديقي أو أي لقب آخر» للروائية الشابة ميرا عماد كريم، اللاجئة الفلسطينية المولودة في لبنان. هي من الروايات النادرة التي تحاكي أوضاع وحساسية وضع اللاجئ الفلسطيني في لبنان من أبناء الجيل الجديد، في خبايا قصة حبٍّ تجمع بين بلقيس ونضال. الاثنان من وطن واحد، لكن من بيئتين مختلفتين. هما لاجئان فلسطينيان تجمعهما هموم العودة إلى الوطن، ولكن الوطن بعيد، ولكل منهما قصة.
في ثنايا صفحات الرواية، تقدم الكاتبة بلقيس: «بلقيس محمد، باحثة اجتماعية، فلسطينية أسكن في بيروت، أسمتني أمي تيمُّناً ببلقيس الراوي، فقد أحبَّت نزار قباني وأحبَّت قصتهما… بلقيس فتاة تحبُّ القراءة وتحبُّ الاكتشاف والمغامرة، عاشت طفولة ممتعة آمنة رغم غياب والدها، فقدت جدَّها وجدَّتها اللذين أحبتهما كثيراً، تحبُّ عائلتها… تحبُّ أصدقاءها… تحبُّ نضال… أحبَّت نضال سابقاً… الآن تريد أن تنساه…أو أن لا تفعل».
اكتشفت بلقيس أنّها لاجئة عن طريق بطاقة هوية ذات لون أزرق غير ممغنطة مكتوبة بخط اليد، تختلف عن نظيراتها من بطاقات الهوية اللبنانية. أيضاً اكتشفت ذلك عن طريق تعامل بعض اللبنانيين معها بعنصرية. تختار بلقيس مخيم عين الحلوة للاجئين في صيدا لإجراء بحث. وهناك، تلتقي بنضال. وفي كل تلك الحالات قصص ومشاهد لأحوال المخيمات، ولمواقف تعكس شعور اللاجئ الفلسطيني، ولا يعبِّر عنها في كثير من الأحيان.
تتبدى أزمة لهجة بلقيس البيروتية في أرجاء المخيم، وهي بالتالي تعبِّر عن شريحة من الفلسطينيين ممّن عاشوا خارج المخيم، واندمجوا في المجتمع اللبناني: «كنت أودُّ أن أثبت فلسطينيتي للأهالي الذين عاشوا في المخيم طوال حياتهم بشدَّة، كنت أتعلم الكلمات الجديدة، وأشلح عن لساني لهجتي البيروتية حين أدخل المخيم. كنت أتحسّس جداً إن علَّق أحد على كلمة أقولها أو قابلني بالقول بأنت بيروتية».
أما نضال الشاب من مخيم عين الحلوة، فهو يعاني الفقر والحرمان من الحقوق، لكنه مكافح، لم يترك مهنة متوافرة إلا وعمل فيها، وصولاً إلى حراسة مكتب أحد التنظيمات. لا يتحمل مسؤولية نفسه فقط، فلديه هموم ابن صديقه وليد، الذي قُتل في المخيم بسبب إطلاق نار متبادل، فأصبح «شهيداً مظلوماً».
هنا تضيف الروائية على الوجع الفلسطيني وجعاً آخر، بل ملحاً على الجرح الغائر، ما تعانيه المخيمات من السلاح المتفلت لدى البعض، عبر تساؤل طفل بريء هو محمد ابن وليد، حين يسمع أن والده شهيد، وقد قُتل في اشتباك عرضي في المخيم، فيعلّق: «لم يقتله اليهود فكيف يكون شهيداً؟!!».
بلقيس، المفعمة بالنشاط، ذاقت مرارة غياب الأب، فوالدها لم يطق مرارة الحرمان من الحقوق وضيق العيش، فغادر إلى السويد، ليعود إلى عائلته بعد غياب سنوات. هذا المشهد المؤلم والحساس يلقي بظلاله عند استقبال الزوجة التي تحمَّلت الغياب وتربية بلقيس، في مشهد استعادت فيه الزوجة خبايا الألم للزوج «الحبيب أو الذي كان حبيباً»، والابنة التي كبرت في غياب الأب الحنون. يعيدنا هذا المشهد إلى معاناة الأُسر الفلسطينية من واقع فرض نفسه عليها، فقد طرد الفقر، والحرمان من مستقبل آمن، المئات من الآباء إلى خارج لبنان تجاه أوروبا، بحثاً عن أمل في مستقبل واعد .
تنقلنا لاحقاً الروائية ميرا إلى مشهدية ينتاب فيها نضال الغضب، ليعبِّر عن شعور كل اللاجئين المحرومين من وطنهم، عبر رؤية مركبات الاحتلال في أرض فلسطين من منطقة الناقورة الحدودية: «كانت عربات المستوطنين والجيش الصهيوني تمشط الطرقات الظاهرة لنا، فشعر نضال بأنه أسير في هذه البلاد الكبيرة غير قادر على ممارسة حياة خُلقت له لكنها سرقت منه. شعور الغضب الذي لا يمنع نضال فقط، بل آلاف الفلسطينيين المهجرين من المضي في حياتهم، من التخطيط، من العمل وممارسة حياة طبيعية أو شبه طبيعية، طبعاً بحدود ما تسمح به الدولة المضيفة».
يتأثر اللاجئ الفلسطيني بالأحداث التي تمر بها البلاد، لكن لديه مخاوف من المشاركة في أي تظاهرات مطلبية، إذ تتبدّى في الرواية بمشهدية ثورة 17 تشرين عام 2019، فتصور الرواية حذر الفلسطيني، عبر حماس بلقيس الحذر: «أجلس تحت تمثال رياض الصلح، عادة في مثل هذه الظروف، أكون بين هذا الجمع الغاضب، هناك في منتصفهم، أهتف بملء صوتي أو أسجّل بعض الهتافات وأعطيهم لأي كان من يقود سيمفونية الهتاف في لحظتها، لكنني اليوم خفت أن أكتب هتافاً فيصرخ الحشد من حولي : إنت فلسطينية شو دخلك؟».
تتشكل علاقة الحب بين بلقيس ونضال بالرسائل، لتضيف مشهداً رومانسياً أو لتذكرنا، بما كان تراثاً في زمن الأدباء، أو بين العاشقين منهم، رسائل غادة السمان لغسان كنفاني، أو ربما رسائل مي زيادة إلى جبران خليل جبران، رسائل تبث فيها تساؤلات وشجون لفتاة أرادت أن تكون بداية العلاقة صداقة، لكن ما لبثت تلك الرسائل أن حولت العلاقة إلى حب، ثم طرأ تحول ما على تلك العلاقة بعد حادثة انفجار مرفأ بيروت، فما الذي جرى لنضال؟
لم تردها الروائية ميرا خاتمة واحدة، بل خاتمتين من وحي الخيال، لكنهما ينطبقان على مستقبل اللاجئ الفلسطيني: مشهد أول لزوجين محبّين لاجئين في لبنان، ومشهد آخر، لنضال وهو في الخارج يلتقي ببلقيس. وتختلف في كلتا الحالتين مشهدية الحب، والفراق، بين ما يمكن أن يعيشه في بلد اللجوء ويتحمل مآسيه، وبين تحقيق حلم السفر وفقدان الحبيب، وفي الرواية تفاصيل كثيرة… سندرك بحق أنها رواية كل لاجئ فلسطيني في لبنان.
صحيفة الأخبار اللبنانية