فن و ثقافة

مُنَحيات.. نماذج من الأدب الساخر في كتابات وجلسات «منح الصلح»

جهاد كرم

منح الصلح أو البيك، كما يحلو لأصدقائه أن ينادوه، شخصية فكرية وسياسية، ملأت الدنيا وشغلت الناس، استحوذت على عقل وقلب كل من عرفه واستمع إليه.
اتخذ لنفسه مملكة، امتدت حدودها من محطة الداعوق مروراً بشارع «بلس» حتى المنارة.
هذه المنطقة تقع في داخلها الجامعة الأميركية في بيروت ومطعم «فيصل» الشهير، هو أكبر من مقهى وأقل من نادٍ.
ولد في 30 كانون الأول العام 1927، والده عادل بيك الصلح، رئيس بلدية بيروت لسنوات عديدة. وهو ابن الدوحة الصلحية التي لعبت لأكثر من نصف قرن دوراً هاماً في الحياة الوطنية اللبنانية إلى دنيا العرب. والدته السيدة نظلي المتحدرة من أصول ارستقراطية تركية.
لا تتجه نيتي الكتابة عن منح بك المفكر أو السياسي ولا تقييم مواقفه الوطنية والقومية، بل فقط، تتناول جانب الطرافة في أحاديثه.
لمنح قدرة فائقة في الجواب السريع الذي ينمّ عن ذكاء خارق في تلخيص شخص أو موقف بكلمة أو جملة واحدة معبرة، كثيراً ما تحمل في طياتها نقداً لاذعاً…..
وحيث من غير الممكن، الإشارة إلى كل الأحاديث والآراء التي تضمّنت سخرية. لذلك سأختار بعضاً منها، المتداولة بين الناس.
المشكلة ليست في الجغرافيا إنما التاريخ
يردد منح بك هذه الطرفة حول أحد أصدقائه فيقول إن هذا الصديق سافر للدراسة في الخارج، وكان ذلك في شهر تشرين الأول من العام 1952 اختار هذا الصديق ركوب البحر واختار الباخرة التي تعبر الخط بين بيروت ومارسيليا في فرنسا.
ورغم المتعة التي تؤمنها هذه الرحلات، فيبقى هذا الصديق حزيناً، يلفه ألم الفراق، وبدأ يراسل منح بيك كل يوم تقريباً.
كتب له أن التقى احدى الشقراوات الجميلات، تحمل كتاباً في يدها ابتسم لها من بعيد فابتسمت له…
وألحق في اليوم الثاني بطاقة أخرى إلى «منح» يسلفه فيها أنه حيّاها بالفرنسية وقال بونجور وأنها ردت عليه بونجور.
جاء اليوم الثالث وقدر هذا الصديق اقتحام دفاعات هذه الشقراء، فتقدم منها مخاطباً إياها باللغة الفرنسية… هل أنت مسافرة على هذه الباخرة… أجابته بغضب واشمئزاز لا بل إني هبطت من السماء… ثم أنهى مراسلته مع «منح» قائلاً إن مشاكلنا مع البنات تعود جذورها للتاريخ ولا علاقة لها بالجغرافية.

تمرد البيك على الوظيفة

جمعت عائلة الصلح باللواء الأمير فؤاد شهاب علاقة طيبة وعشرة طويلة وجاءت ثمرة هذه العلاقة بتعيين منح بك مستشاراً في القصر الجمهوري ووزارة الأنباء اللبنانية. لم يستطع رغم كل هذه العلاقة أن يتأقلم مع روح الوظيفة ومسؤولياتها.
فتراه، بعد أن كلف مرات عديدة بصياغة خطابات الرئيس شهاب، إما مباشرة أو بالاشتراك مع عمه تقي الدين.
لم يدم الوقت طويلاً حتى أُبعد «منح» عن هذه المهمة.
وأبرز أسباب ذلك، هو ترداد منح الحديث عن الخطاب ومضامينه قبل أن يلقيه شهاب. والذين عاصروه تلك الفترة يتذكرون أن الجملة التي أثارت غضب القصر الجمهوري هي «إن تاريخ لبنان قد سُجل وإن كان لم يُكتب بعد». والفضيحة أن هذه العبارة قد تناقلتها الصحف في لبنان قبل أن يلقيها الرئيس شهاب.

تعريف البيك للمثقفين

لا أغالي إذا بيّنت وأكدت أن منح لم يحصل على حقه كاملاً في العهد الشهابي. مع العلم أنه من أكفأ الشخصيات اللبنانية ومن أكثرها ذكاءً. غير أن تكوينه الشخصي والنفسي لا يسمح له أن يكون تابعاً للغير ولا بد من الاعتراف أنه يتحمل جزءاً من المسؤولية نتيجة تقلبه في مزاجه وعدم التزامه الكامل. واختارت الشهابية عدداً من المثقفين الذين سلمتهم عدداً من المناصب. يجدر بالذكر أن بعضهم يستأهل ولديه كل المواصفات والقدرة والكفاءة. أما الآخرون فهم من أصحاب الحظوة الذين يسقطون في امتحان الكفاءة والأخلاق، وقد وصفهم منح «أن طموحهم وظيفة وكفاءتهم شهادة وأن رصيدهم جبانة وأخلاقهم رذائل مؤجلة».

البيك ووالدي

جاء منح إلى طرابلس لحضور حفل كتب كتاب الدكتور عبد المجيد الرافعي وزوجته ليلى بقسماطي. شارك في هذه الزيارة المرحوم خالد اليشرطي والداعي جهاد كرم. ألححت عليهم لتناول الغداء في منزلنا هناك. كان بيتنا في الطابق الأرضي متصلاً بحديقة تؤدي عبر بوابة حديد إلى الخارج.
وعندما انتهت الزيارة وقررنا العودة رافقنا الوالد إلى الطريق مبدياً كل عبارات التبجيل والامتنان والتشرف بهذه الزيارة ويبدو أن والدي رحمه الله قد تمادى في مجاملته فالتفت منح إلى خالد الذي كان يتولى قيادة السيارة…. «عجّل عجّل يا حبيبي….. لأن أبا جهاد مقرر أن يرافقنا إلى بيروت لكي يكمل طقوس الوداع».

البيك ووالدتي ومحاولة التعويض

زارنا منح مرة أخرى في الربيع ولم تسمح والدتي لوالدي أن يتمادى في التكريم، وأن يرافق منح وصحبه إلى الباب الخارجي، فهي تولت هذه المهمة عنه.
وفيما هي تقوم بواجب التوديع التفتت نحو منح قائلة «دير بالك علينا يا بيك واستر علينا».
وهنا علق أحد الأصدقاء الموجودين «شو ها الصيت السيئ يا بيك»، فأجاب فوراً: «أم جهاد تعرف ما لديها».

لم تجد ما تمتدحه غير شعرك

التقيت وأنا في طريقي إلى دمشق على ما أظن في العام 1964 بإحدى الفتيات الأجنبيات، تحدثنا في الطريق ودعتني إلى الجلوس معها في المقعد الخلفي، لأنها كانت قد استأجرت نصف السيارة تقريباً. استمتعت بالرحلة وخفف جودها من رتابة الطريق. امتدحت جمالها وأطريت نعومتها. بادلتني الإطراء وقالت إنها أحبت شعري الذي بدأ الشيب يتسلل إليه منازعاً السواد الذي بقي.
عدت إلى بيروت في اليوم التالي وذهبت جرياً على عادتي إلى مطعم فيصل، حيث كان منح جالساً يتحلق الشباب حوله، رويت لهم معتزاً ما جرى معي وبدلاً من أن يرفع البيك معنوياتي، قال: لا تغتر. هذه المسكينة مؤدبة وأرادت أن تكون لطيفة وأن تمتدح فيك شيئاً ما فلم تجد إلا شعرك.

في كل قضية لنا معن ما

شاءت الصدف أن أكون معجباً بفتاة تجمع بين الجمال والنجاح في الدراسة والحياة الاجتماعية ولكنها لم تتجاوب مع دعواتي إما لأنني لم أعجبها أو لنقل أنها كانت مشغولة بسواي.
وبعد فترة وجيزة حضر إلى بيروت وإلى محيط الجامعة الأميركية صديق لمنح اسمه معن مدينة، دمشقي وسيم مثقف وكان يمارس مهنة أستاذ محاضر في إحدى جامعات نيويورك وطبعاً التقاه منح مرات عدة مع الآنسة وهو كان يعرف أنني معجب بها.
وبعد سنتين أو ثلاث كنت أدرس بعد تخرجي من الجامعة الأميركية الحقوق في الجامعة اللبنانية زاملني آنذاك الصديق الغالي والمناضل القومي العربي معن بشور الذي كان يدرس الحقوق معي في الصف ذاته فهو حاد الذكاء سريع الفهم منظم الفكر، مما يدفعه إلى النجاح كل سنة بدون جهد كبير.
وبالمقابل لم أوفق في النجاح في تلك السنة، وكانت الرابعة على ما أظن، فبدلاً من أن يواسيني منح بيك نظر إليّ وقال لا تبتئس يبدو أن لك في كل قضية «معن ما».
طبعاً أنا لم أغضب أو يصيبني الإحباط لأني اعتبرها طرفة موفقة والصديق معن يستاهل.

اعتمدت عليك أكثر من اللازم

كانت السيتي كافيه بالنسبة لمنح بك المكان المفضل بعد أن ضاع فيصل، ولم يبادر أحد لإنقاذه. وبعد ظهر يوم ربيعي مشمس مررت إلى بيته لزيارته والاطمئنان عليه. صادفته مع مساعدته في طريقهما إلى السيتي كافيه فاقترحت أن تعود المساعدة إلى المنزل وأن أتولى شخصياً مساعدته حتى يصل السيتي كافيه. تأبط ذراعي وسرنا باتجاه المقهى فيما عادت المساعدة أدراجها إلى المنزل. قطعنا كل المسافة تقريباً ولما قاربنا الوصول أراد منح أن يأتي من الطريق الصعب حيث توجد ثلاث درجات.
وبسرعة هائلة وجدت أن منح بك فلت من ذراعي ووقع على الأرض وجاء موظفو المقهى لمساعدتي في رفعه عن الأرض. وبادرته بك، بك، حبيبي هل أصابك من ضرر؟ هل هناك من كسور أو جروح؟ فأجاب: لا لا! القضية انني اعتمدت عليك أكثر من اللزوم.
رفع مستوى التعليم العالي عند البنات:
كان لدينا صديق مشترك ناجح في عمله ومخلص في صداقته، لكنه لم ينعم عليه الله بالظرافة وحسن التدبير ليكون مقبولاً في عالم نساء الجامعة وكلية بيروت للبنات ومحيط رأس بيروت. فقد طلب العديد من البنات بغية الزواج ولكن أهلهن كانوا يرفضونه وربما لعلة غير معلومة، ولم يكن رفضهم صداً مهيناً بل اكتفوا بالقول بدّها تكفي علمها.
فعلق منح بظرفه المعهود: هذا المسكين لكثرة ما طلب من أيدي بنات اضطر الأهل إلى إرسال بناتهم إلى الجامعة، فيكون بذلك قد ساهم في رفع مستوى التعليم العالي لدى البنات.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى