كتب

هادي الحفظي … احفظوا هذا الاسم!

ساري موسى

تمتلك رواية «ترف الانكفاء» للكاتب السعودي وائل هادي الحفظي، التي صدرت أخيراً عن «دار الآداب» في بيروت، كل عناصر النضج والجودة التي أهَّلتها لتفوز بـ«جائزة أسماء صديق للرواية الأولى».

هادي الحفظي … احفظوا هذا الاسم!

تمتلك رواية «ترف الانكفاء» للكاتب السعودي وائل هادي الحفظي ، التي صدرت أخيراً عن «دار الآداب» في بيروت، كل عناصر النضج والجودة التي أهَّلتها لتفوز بـ«جائزة أسماء صديق للرواية الأولى».

كان يمكن لها أن تصدر من دون أن تتوخَّى وساطةً من أي نوع. فعدا عن فنِّيتها وبنائها المتقنَيْن، تقدِّم لنا موضوعاً حيويَّاً معاصراً، وتعالجه من مختلف الجوانب ووجهات النظر العلمية والعملية، لنفهم بذلك كيف سقط بطلها في وهدة البطالة واليأس، وصولاً إلى الجريمة.

في رواية «ترف الانكفاء» للكاتب هادي الحفظي: الاستقالة من الحياة

يتراجع دور المكان ويغيب اسمه ومميِّزاته؛ فأن نقول روايةً معاصرةً في عالم اليوم يعني أنّ الأمكنة التي تدور فيها الأحداث متشابهة، رغم التباعد الجغرافي في ما بينها.

في هذه الرواية للكاتب السعودي وائل هادي الحفظي، هناك مكتب الشركة الذي ترك البطل العمل فيها، حيث يوجد كرسي وطاولة وشاشة اللابتوب. وهناك المنزل الصغير الفوضوي المستأجَر، الذي يعيش فيه الشاب العازب وحيداً، حيث الكنبة وشاشة التلفزيون والتدخين. وقد أصبح البطل يلازم منزله معظم الوقت، لا يخرج منه إلا تحت ضغط الحاجة إلى شراء ما يأكله أو يدخِّنه، وقد تراجعت صحَّته بسبب نمط حياته البليد واللامبالي هذا.

أما سبب إقدام بطل الرواية، الذي يبقى بلا اسم، على الاستقالة من عمله والركون إلى القعود. فنجد أنَّه هو أيضاً يبحث عنه. بعدما قام بما قام به لأنَّه لم يستطع الاستمرار أكثر.

مطحنة النظام الرأسمالي

هناك أولاً التعب من نمط الحياة الاستهلاكي المفروض على إنسان اليوم أن يسعى فيه. وقد حوّل كل الأشياء إلى سلعٍ لها ثمنها، وأودى بمن يقرِّر التوقّف عن هذا السعي إلى الوحدة والعيش على هامش الحياة.

وهناك أيضاً عودته اللاواعية إلى حادثة موت أمِّه عندما كان صغيراً. إذ يشعر بسببها بانعدام الأمان، ويعاني شحَّاً عاطفيَّاً لم يتمَّ تعويضه. وهو ما عبَّر عنه، في أحد حواراته مع الطبيبة النفسية، التي فضَّل أن يستطرد في الحديث معها من بعد على زيارتها والكلام معها وجهاً لوجه، بالقول: «إن مفهومي للذكريات هو أنَّ الألم يسكن شطرَيْها؛ فالموجعة في أصلها موجعةٌ عند تذكُّرها، والمفرحة في أصلها موجعةٌ عند تذكرها».

ولأنَّ سِجِلَّ وحدته هو سِجِلّ استعراض لأفراد عائلته الغائبين، يكمل بتذكّر موت أبيه، الذي أصيب بالنسيان قبل وفاته ولم يعد يتعرّف حتى إلى ابنه، وسفر أخيه الذي فضَّل الهروب والابتعاد. وبما أنَّه لم يحبَّ فتاةً أو يتَّخذ له زوجةً يكمل حياته إلى جانبها ويكوِّن معها أسرة، نجد أنَّه أصبح يكره العائلات والأزواج والأولاد، بل يهجو التقاليد التي تفرض على الشخص أن يتزوَّج ويأتي بأنفُسٍ جديدة إلى هذا العالم المُكتظّ.

الحزن عدوّ الإنتاجية

في عالم اليوم، ليست البطالة بطالةً تامَّةً وعطالةً نهائية، بل إنَّ النظام الرأسمالي نفسه يموّهها عبر العمل عبر «الأونلاين». وهو ما يضطرُّ بطل الرواية إلى فعله من أجل تأمين مصاريف حياته، فيصمِّم رسومات يضعها على صدر سترات يبيعها، تتماشى مع أحداث معيَّنة أو تتزامن مع مناسبات وأيامٍ عالمية، كـ«يوم العُزَّاب» مثلاً، لا هدف لها سوى زيادة الاستهلاك واختراع أسباب لتحريض الناس على الشراء.

كما إنَّه توصَّل إلى معرفة الطبيبة النفسية عبر أحد التطبيقات. فالعالم الذي يسبِّب الأمراض النفسية يبيع السبل المفترَضة للشفاء منها. كالأطباء النفسيين الذين يهمهم أن يرتبط بهم المريض أطول وقتٍ ممكن. أي ألَّا يصلوا به إلى الشفاء، و«مدرِّبي الحياة» الذين يبيعون الناس الكلام الذي يريد هؤلاء سماعه ويطربون له. هؤلاء يهدفون إلى إشعار الناس بالإيجابية والتفاؤل والسعادة الدائمِين، ذلك أنَّه «لا وقتَ متاح أساساً للبشر كي يحزنوا، لأن الحزن عدوّ الإنتاجية».

بطل ألبير كامو يحوم في الجوار

ونتيجةً لكلِّ ما سبق، تصل الأحداث إلى النهاية التي يبدو ألَّا مفرَّ منها. يخرج البطل من عزلته عبر التواصل والتعامل مع الشخص الوحيد الموجود في محيطه. وهو في هذه الحالة جارته في الشقة المجاورة في البناية، الأرملة العجوز الصمَّاء.

تتظهَّر علاقته بالعالم عبر علاقته بهذه المرأة. إذ تراوح هذه العلاقة بين الرغبة والحاجة من جهة، والقرف والاشمئزاز من جهة أخرى وفي الوقت نفسه. تتغلّب المشاعر الأخيرة على ما عداها. ما يودي به إلى اقتراف جريمة القتل بهدوء وتسليم يذكِّرانا بمثيليْهما عند مورسو، بطل رواية «الغريب» لألبير كامو.

اكتشاف القنبلة النووية أكثر فائدةً من اكتشاف المضادات الحيوية.

توِّج الجريمة نزعته العدميَّة التي عبَّر عنها من خلال اعتباره أنَّ «اكتشاف القنبلة النووية أكثر فائدةً لهذا العالم من اكتشاف المضادات الحيوية». وتكشف حجم مشكلته النفسية وثقل معاناته أيضا. اللتين تجعلان القارئ يظنّ على امتداد الرواية أنَّه كهلٌ في أواخر أربعينياته. بينما هو شابٌّ ما يزال في الثالثة والعشرين من عمره فقط.

كما تبرِّر انجذاب الطبيبة النفسية الجميلة إليه أيضا. بعدما بدا لنا هذا الانجذاب خلال محادثاتهما الطويلة غير مفهوم. ليتَّضح لنا أنَّه لم يكن انجذاباً شخصيَّاً بل علميَّاً. عبر استدارجه في الكلام، كانت تدرس حالته، وقد نجحت في ذلك. إذ دفعته إلى الاستطراد في أفكاره العميقة ورؤاه للعالم وتنظيراته حول شؤونه. ويبدو أنَّها اكتسبت ثقته إلى حدِّ أنَّه أبلغها بنيَّته قتل العجوز قبل إقدامه على ذلك. خلال التحقيق معه، ظلَّ مقتنعاً أنَّ المشكلة ليست فيه، بل في العالم. وفي البشر الآخرين المنساقين وفقاً لمنطق العالم، وأنَّ العالم هو السجن. أمَّا أن تكون محجوزاً عنه خلف قضبانٍ معدنيَّة، فهو الحرية.

«إنَّ من طبيعة البشر الإيذاء، ومن طبيعتهم كذلك التكيّف، ولكن لكلٍّ منهم طريقته في الصراخ. وفي الحديث عن الصراخ، فإنَّ الصمت هو أنبل تعبيرٍ عن الألم. الهدوء في وجه الضجيج هو صراخٌ أيضاً، تعبيرٌ عن الرفض، واحتجاجٌ تأمُّليٌّ ضدَّ كلِّ الكوارث التي تنفجر فينا أو حولنا».

صحيفة الأخبار اللبنانية

لزيارة موقع بوابة الشرق الاوسط الجديدة على الفيسبوك

لزيارة موقع بوابة الشرق الاوسط الجديدة على التويتر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى