
في كتابه الجديد «الألوية الحمراء: الإرهابيون الذين أركعوا إيطاليا» (بلومسبيري ــ 2025)، يقدم المؤرخ جون فوت دراسة مرجعيةً شاملة لأخطر تجربة كفاح يساري مسلّحة في أوروبا، كاشفاً عن الجذور المادية التي أدت إلى «سنوات الرصاص» الدامية في إيطاليا
في صباح السادس عشر من آذار (مارس) 1978، اهتزت إيطاليا على وقع عملية جريئة هزت أسس الجمهورية. في قلب روما، اعترضت مجموعة مسلحة من «الألوية الحمراء» موكب رئيس الوزراء الأسبق ألدو مورو، فقتلت حرّاسه الخمسة بدم بارد، واختطفته. على مدى 55 يوماً، حبست إيطاليا أنفاسها، قبل أن يُعثر على جثته مخترقةً بالرصاص في صندوق سيارة «رينو 4» حمراء، متروكة بشكل رمزي في منتصف الطريق بين مقرّي «الحزب الديمقراطي المسيحي» والحزب الشيوعي.
لم تكن هذه الحادثة مجرد عملية إرهابية، بل كانت ذروة ما عُرف بـ «سنوات الرصاص»: حقبة دموية تركت ندوباً غائرة في الذاكرة الإيطالية لم تندمل حتى اليوم.
في كتابه الجديد «الألوية الحمراء: الإرهابيون الذين أركعوا إيطاليا» (بلومسبيري ــ 2025)، يقدم المؤرخ البريطاني المرموق جون فوت، أستاذ التاريخ الإيطالي الحديث في جامعة «بريستول»، دراسةً شاملةً وعميقةً تعتبر العمل المرجعي الأهم لفهم هذه الظاهرة المعقدة.
لا يكتفي فوت بسرد الوقائع، بل يغوص في أعماق السياق التاريخي والمادي الذي أنتج هذه المجموعة، ليجيب عن السؤال الجوهري الذي يطرحه في مقدمة كتابه: «من أين أتت الألوية الحمراء؟».
الجذور المادية للصراع: من المصنع إلى الكفاح المسلح
للإجابة عن هذا السؤال، يتجنب فوت التفسيرات السطحية التي تختزل «الألوية» بمجرد مجموعة من المتعصبين الأيديولوجيين. بدلاً من ذلك، يعود بنا إلى التربة الخصبة التي نبتت فيها بذور العنف الثوري في إيطاليا ما بعد الحرب. لم تنشأ الألوية الحمراء من فراغ، بل كانت نتاجاً مباشراً للتناقضات الحادة في المجتمع الإيطالي آنذاك.
من جهة، كانت إيطاليا تشهد «معجزة اقتصادية»، ولكن مبنية على نموذج «الفوردية» القاسي في المصانع الضخمة في الشمال، مثل «فيات» في تورينو و«بيريللي» في ميلانو. هنا، كان العمّال، وكثير منهم مهاجرون من الجنوب الفقير، يعانون من ظروف عمل استغلالية، وانضباط صارم، واغتراب عميق.
كان «الخريف الساخن» عام 1969، بموجة إضراباته العمّالية الضخمة التي شلّت البلاد، لحظةً مفصلية. لقد كشف عن قوة الطبقة العاملة، ولكنه أظهر أيضاً عجز الأحزاب والنقابات التقليدية، وعلى رأسها «الحزب الشيوعي الإيطالي» (PCI)، عن احتواء هذه الطاقة الثورية أو ترجمتها إلى تغيير سياسي جذري.
في هذا السياق، شعرت شريحة من الطلاب والعمّال الأكثر راديكاليةً بخيبة أمل من المسار السلمي والبرلماني، ورأت في الدولة الإيطالية مجرد واجهة ديمقراطية تخفي وراءها قوى رجعية وفاشية لم يتم القضاء عليها بالكامل بعد الحرب العالمية الثانية.
يُظهر فوت ببراعة كيف أنّ الخوف من «انقلاب يميني» لم يكن مجرد وهْم. فتفجير «ساحة فونتانا» في ميلانو عام 1969، الذي نفّذه فاشيون جدد بالتواطؤ مع أجهزة سرية في الدولة، ثم إلصاقه باليسار، عزّز قناعة كثيرين بأنّ الدولة تمارس «استراتيجية توتير لخلق الفوضى وتبرير قمع الحركات العمالية واليسارية». في هذا المناخ المشحون بالشك وانعدام الثقة، بدا الكفاح المسلح طريقاً حتمياً للدفاع عن النفس والهجوم المضاد.
من النظرية إلى الرصاص: تطور التكتيكات والأهداف
تأسّست «الألوية الحمراء» رسمياً عام 1970 على يد طلاب من جامعة «ترينتو» أمثال ريناتو كوريتشيو ومارغريتا كاغول، إلى جانب ناشطين عماليين أمثال ألبيرتو فرانشيسكيني.
في البداية، كانت عملياتهم رمزية: إحراق سيارات مديري المصانع، واختطافات قصيرة للمسؤولين وإخضاعهم لـ «محاكمات شعبية» مهينة. لكن مع مرور الوقت، وتأثراً بحركات حرب عصابات المدن في أميركا اللاتينية (مثل «توباماروس» في الأوروغواي)، انتقلت المجموعة إلى مرحلة أكثر دموية.
تبنّت الألوية شعار «اضرب واحداً تُثقِّف مئة»، وبدأت حملة منظمة من عمليات «إطلاق النار على الركبتين» التي استهدفت القضاة والصحافيين ومدراء الشركات، بهدف بث الرعب وشل مفاصل الدولة. يوضح فوت أنّ هذه التكتيكات لم تكن عشوائية، بل كانت تهدف إلى كشف «الوجه القمعي الحقيقي للدولة» وإجبارها على التخلي عن قناعها الديمقراطي، ما قد يدفع الجماهير إلى الانتفاضة وفق تصوّرهم.
لقد نجحت الألوية، وهي مجموعة لم يتجاوز عدد أعضائها النشطين بضع عشرات، في تحدّي الدولة بشكل غير مسبوق. لقد تسبّبت في تأجيل المحاكمات، وأرهبت هيئات المحلفين، وأجبرت شخصيات عامة على العيش في خوف دائم. كانت قدرتها على التخفي والتخطيط والتنفيذ، كما ظهر في عملية «مورو»، مذهلة، وأثارت سيلاً من نظريات المؤامرة حول وجود أيادٍ خفية (الاستخبارات الأميركية، السوفيتية، الموساد) تحرّكها.
قضية مورو: الذروة والهاوية
يمثّل اختطاف وقتل ألدو مورو، مهندس «التسوية التاريخية» التي كانت ستأتي بالشيوعيين إلى الحكومة للمرة الأولى، ذروة قوة الألوية ونقطة بداية نهايتها في آن واحد. لقد أظهرت العملية قدرتها على ضرب قلب الدولة، ولكنها في الوقت نفسه كشفت عن وحشيتها وعزلتها عن المجتمع الذي ادّعت تمثيله.
يرفض فوت بحسم نظريات المؤامرة، مؤكداً أنّ الأدلة تشير إلى أنّ العملية كانت من تخطيط وتنفيذ الألوية بالكامل. ويجادل بأنّ التركيز على المؤامرات الخارجية هو محاولة للهروب من حقيقة مزعجة: العنف نبع من داخل المجتمع الإيطالي نفسه. لقد كان قتل مورو، بالنسبة إلى الألوية، ضرورياً لقطع الطريق على أي شكل من أشكال التعاون الطبقي بين الديمقراطيين المسيحيين والشيوعيين، إذ اعتبروه خيانة للقضية الثورية.
لكن النتيجة كانت عكسية تماماً. بدلاً من إشعال الثورة، أدت الجريمة إلى توحيد الغالبية الساحقة من الإيطاليين، بمن في ذلك الطبقة العاملة، ضد الألوية. كان اغتيالها للقيادي النقابي الشيوعي غويدو روسا في عام 1979 بمثابة المسمار الأخير في نعش شرعيتها المزعومة. لقد أثبتت أنها لا تقتل «أعداء الشعب» فحسب، بل أيضاً أبناء الطبقة العاملة التي تزعم الدفاع عنها.
الانهيار والإرث
منذ تلك اللحظة، بدأت الألوية تفقد زخمها وقواعدها الشعبية. ردت الدولة بقوة، مستخدمةً قوانين الطوارئ، وأساليب استخباراتية جديدة (بما في ذلك التعذيب، كما يلمح فوت في قضية تحرير الجنرال الأميركي جيمس دوزير عام 1981)، وتشجيع التائبين على الوشاية برفاقهم. تفككت المجموعة تدريجياً إلى فصائل متناحرة، وانتهت فعلياً في عام 1988 بعد آخر عملية اغتيال لها.
كتاب جون فوت تحليل تاريخي مادي نادر ورصين يتعدّى كونه مجرد سجل تأريخي للمرحلة الدموية ليقدم تشريحاً عميقاً لـتراجيديا الأمة الإيطالية.
ينجح فوت في «أنسنة» الضحايا، وإعادة الاعتبار لآلامهم، ولكنه في الوقت نفسه لا يقع في فخ الشيطنة التبسيطية لمرتكبي العنف. إنه يوضح كيف أنّ هؤلاء الشباب، الذين انطلقوا بحماسة ثورية مثالية، انتهى بهم المطاف في دوامة من العنف العدمي، معزولين عن الواقع، وعن الطبقة التي أرادوا تحريرها.
يظلّ إرث «الألوية الحمراء» حياً في إيطاليا، ليس فقط في ذاكرة الضحايا، بل أيضاً في الإرث الثقيل من عدم الثقة بالدولة، وفي نظريات المؤامرة التي لا تزال تجد من يصدقها. ببحثه الدقيق وتحليله العميق، لا يقدم الكتاب إجابات سهلة، بل يجبرنا على مواجهة التعقيدات المؤلمة لحقبة لا تزال تلقي بظلالها الكثيفة على الحاضر الإيطالي.
إنه قراءة أساسية لكلّ من يريد أن يفهم كيف يمكن للمجتمعات أن تنتج عنفها الخاص، وكيف يمكن للحلم الطوباوي بالثورة أن يتحوّل إلى كابوس دموي.
صحيفة الأخبار اللبنانية