كتب

همس الحرية في رواية ‘الحب والصمت’

همس الحرية في رواية ‘الحب والصمت’ يقول الكاتب المصري بهاء طاهر (عندما تقرر الانتحار تكون وقتها قد مت بالفعل .. ما ينقذونه بعد ذلك لا يكون هو أنت ولكن جثتك).

في الستينيات من القرن العشرين قدمت الفتاة الشابة عنايات الزيات روايتها الأولى والوحيدة “الحب والصمت” إلى أحد الناشرين الذي رفض نشرها تماما قائلا لها إنها لاتصلح للنشر. مما دفع بها إلى الانتحار !  . ماتت عنايات يوم تم رفض روايتها، انتحار الكاتبة الشابة هو الذي دفع الأوساط الثقافية في مصر إلى الاطلاع على روايتها والاهتمام بها، وطبعها بل حتى إنها تحولت إلى فيلم سينمائي، ماتت عنايات تاركة عملا  واحدا  حفَر أسمها بين الكاتبات العربيات وتركت لنا رواية تتحدث عن الحرية بكل وجوهها، حرية المرأة وحرية الفرد وحرية الوطن.

وتدور احداث الرواية في حقبة الخمسينيات من القرن العشرين ابان الحكم الملكي في مصر.

و تبدأ الرواية ببكائية شديدة الوطأ عندما يتوفى هشام الأخ الأكبر لبطلة الرواية نجلاء التي كانت متعلقة به اشد التعلق. وكان يمثل لها العالم كله وكان سندا لها في حياتها وبفقده تشعر البطلة إنها قد فقدت عالمها ولن تستطيع التعامل مرة أخرى مع العالم الخارجي.

ومع تسلسل الأحداث يتبين ان البطلة تنتمي لعائلة شديدة الثراء وتوفر لها كل سبل الراحة المادية والبذخ المبالغ فيه. غير إنها لاتهتم بالراحة المادية قدراهتمامها بمعنى الحياة (لماذا نتعذب في هذه الدنيا.. ولماذا نولد لنمرض ونمرض ونموت؟ أهي مزحة سخيفة… أم هناك حكمة وراء كل هذا؟ وماتلك الحكمة؟)

“أنا أحس بالغربة عن الناس. أحيانا أشك أنني أحيا فعلا وأنني موجودة . سأترك جثتي الحية تعوم على صفحة الليل لتنقلني للغد لأيام أخرى قديمة”  تتشابه الأيام في حياة نجلاء الى ان تقترح عليها صديقتها الوحيدة نادية ان تعمل معها في دار النشر التي تعمل بها، وتبدأ نجلاء  بكتابة أول سطر في دفتر الحرية عندما يرفض والدها ان تعمل على نحو قاطع ويقول لها (هل تحتاجين الى القيمة المالية البسيطة التي ستحصلين عليها، والتي لا تتجاوز خمسة عشر جنيها؟ ولوح لها بأنها ستتقاضى راتبا يعادل راتب (مرغني) السائق الذي يعمل لديهم لكنها توضح لوالدها ان العمل ليست مهمته الوحيدة أن يدر أموالا، ولكن العمل تكمن فيه عناصر الحياة وإنها تحلم بأن تتذوق طعم ماتكسب يداها ولن تنتظر أموال الأسرة.

الأوساط الثقافية في مصر اهتمت برواية ‘الحب والصمت’

تواجه نجلاء انتقادات  شديدة من اقربائها بسبب تمسكها في العمل فمن المعروف عن الطبقة الغنية في فترة الحكم الملكي  نادرا ما يعمل رجالها وإنهم يعيشون حياة مرفهه فارغة خالية من العمق الإنساني ولذلك كانت نجلاء تنفر من طبقتها.

وكان التحدي الأكبر لها حينما رفضت ان تتزوج أحد أقاربها (عادل) تلك الزيحة التي أراد الأب والأم والتقاليد والظروف والتداخل الطبقي أن يفرضها عليها، وتلتحق بعملها في دار النشر مع نادية التي تحب (طاهر) مدير الدار حب من طرف واحد (ميت) ، تستنكر نجلاء هذا الحب او بالأحرى هذا الاستجداء العاطفي وتحاول أن تقنع صديقتها الوحيدة بأن تقلع عن هذا السلوك.

وفي خضم هذه الأحداث تتعرف نجلاء على أحمد إبراهيم الكاتب والصحفي صاحب الكلمة الحرة  المكافح ابن الطبقة الفقيرة الرافض لكل مظاهر الظلم والاستبداد وتشاء الظروف أن تأتي روايته في يدها وتقرأها وتناقشه فيها وتبدأ بينهما قصة حب صامتة وتجمعهم حوارات واحاديث كثيرة.

تتأثر نجلاء بآرائه في الحب والحرية والسياسة وظلم الطبقة الغنية للطبقات الأخرى وسوء توزيع الثروات، عالمٌ آخر تتعرف عليه نجلاء بفضل أحمد ( كان يبتسم بكل وجهه في تلك اللحظة .. “حتى عيناه الحزينتان ابتسمتا لي من خلال بكائهما الدائم بغير دموع”

وفي حيلة درامية يكتشف أحمد أن نجلاء تنتمي إلى الطبقة الغنية مما يدفعه إلى الابتعاد عنها وتحاول هي ان تقنعه أن الحب يذيب كل شيء وإنها تكره طبقتها الاستغلالية وتظل العلاقة متأرجحة حول هذا الوتر إلى ان يدخل أحمد السجن بوشاية من والد نجلاء الذي اراد بهذا الفعل أن يبعد نجلاء عن أحمد غير أن نجلاء تزداد تمسكا بأحمد وبعد خروجه من المعتقل كان للقدر رأي آخر .

من الرواية

يصاب أحمد بمرض قاتل، وتذهب اليه نجلاء وتسانده في محنته ويسافر إلى سويسرا للعلاج لكن القدر لايمهله، ويموت أحمد ولا تموت أفكاره يموت من علمها الحب والحرية والقيم الوطنية ومحاربة الملك والانكليز والاستغلال “إن أحمد لم يمت… أنني اراه في كل شيء جميل… في الطبيعة الفنانة… في الأسى الذي يغلف السماء في رحابة الأفق… إنه لم يمت… إنه يكلمني ويتحدث معي عبر الكون كله” “الحياة لاتتوقف لموت أحد … ولا تصمت لحظة إجلالاً لذكرى إنسان راحل … وإنما هي تنساب في هدوء قاسٍ متبلد القلب… وكأن الموت مسألة لاتعنيها… وكأن الميت لم يكن له ذات يوم صوت يملأ الدنيا… ولا مفر لنا من الاستسلام أمام تلك القسوة). (إن الواقع الذي نعيش فيه واقع كاذب مزيف مليء بالمظالم … سأحرك المشاعر، وأثير الوجدان، وأدافع عن الإنسان المظلوم في كل مكان).

وتنتهي الرواية بمشهد يعلن عن قيام ثورة ٢٣ يوليو. تتحقق احلام أحمد بعد وفاته بسقوط الملكية وخروج الانكليز من مصر. وهنا تقول الكاتبة (فتحت باب الفيلا ووقفت على السلم المؤدي إلى الحديقة، فاجأتني طوابير هائلة من الأسلحة الثقيلة والمصفحات متجهة إلى الأسكندرية، وصكت أذني صيحات باعة الصحف تعلن عن ثورة الجيش وانقلاب ٢٣ يوليو .. وقفت أمامي أتتبع الطوابير التي تمر متعاقبة أمام عيني … لقد بدأ الفجر يلوح ! ) ..

أكثر ما يميز الرواية تنوع المواضيع التي تناولتها

ان أكثر ما يميز الرواية تنوع المواضيع التي تناولتها مثل الفقر واستغلال الطبقة الغنية للطبقات الأخرى وخصوصا طبقة الفلاحين “نبات الطفولة مهمل بجوار الحائط … الذباب يأكل من وجهه … والرمد يسمل عيونه البريئة ويطفي جذور الذكاء من احداقه إلى الأبد … لاجديد … الحياة لم تتغير ولكن الذي تغير هو أنا … أنا التي تغيرت … كلمات أحمد هي التي غيرتني… هي التي جعلتني أرى هذا القبح الذي كنت أمر به دون أن اراه … لأني لم أكن اريد أن اراه)  ( كيف تبادر الى ذهني أن الحياة هنا بلا قضبان؟ الحياة هنا منفى … بل سجن كبير … وكل الذين يعيشون هنا سجناء الفقر مدى الحياة)…

كذلك المشاكل التي تواجهها المرأة في مجتماعتنا العربية والمظالم التي تتعرض لها مثل شخصية (شريفة) قريبة نجلاء التي تعرضت الى ملامة زوجها لأنها أنجبت بنت ولم تنجب الولد “وأنا حزينة من أجل المرأة في بلدي … اتسائل هل خلقنا نحن النساء من أجل أن نصبح أدوات تكاثر وتناسل … نلد ونرضع ثم لاشيء بعد هذا ؟” ..

“واكتشفت أني اختلف عن معظم النساء… لست مجرد أنوثة تبحث عن رجل وطفل وبيت تستظل تحته… وإنما أنا إنسانة لي فرديتي وكبريائي … ولاهناء لي في هذه الدنيا إلا مايحقق لي وجودي” …

وتتمثل صورة المرأة القوية في شخصية (نجلاء) بطلة الرواية التي استطاعت أن تعيش برغم فقدها لحبيبها أحمد ومن قبله شقيقها هشام برغم كل هذه الآلام وجدت الطريق وقررت ان تكمل دراستها واختارت أن تدرس فن الرسم الذي كانت تحبه، واختارت أن تسير في طريق الحرية.

وكما يقول جان جاك روسو “الرجل من صنع المرأة فإذا أردتم رجالاً عظاماً فعليكم بالمرأة تعلموها ما هي عظمة النفس وما هي الفضيلة”.

 

ميدل إيست أونلاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى