مهمة دي ميستورا: الوهم وتضييع الوقت
لم يُقنع ستيفان دي ميستورا أحداً بجدية خطته أو مشروعه غير المكتوب، الذي يفترض أن يفضي لعقد اتفاقية تسوية جدية وشاملة وعادلة للأزمة السورية، ولم يأخذ أيٌّ من الأطراف ذات العلاقة محلياً وإقليمياً ودولياً مساعيه على محمل الجد. كما لم يحاول هو نفسه أو فريقه أن يكون جاداً، أو يتصرف بما يوحي بمعرفته بجوانب الأزمة السورية المعقدة والمتشابكة، ولم يتقدم بأي خطة مكتوبة، وقال إنه يطرح أفكاراً يحاول استكمالها بالتواصل مع الأطراف المعنية. ولذلك التقى مسؤولي السلطة السورية ومعظم فصائل المعارضة الداخلية والخارجية، وزار روسيا وإيران وحاور المجموعة الأوروبية، وبديهي أنه كان يتواصل من دون توقف مع الأمين العام للأمم المتحدة. وبدلاً من أن يصل إلى مشروع جديد يقرّب الحل كما اقترح المبعوثان الدوليان السابقان كوفي أنان والأخضر الإبراهيمي، وصل بدلاً من ذلك إلى كلام لا يعني شيئاً ويبيع الوهم للجميع، ويبدو الهدف من ورائه إضاعة الوقت، بانتظار أن يصل مَن بيدهم الحل إلى حل.
تجاهل دي ميستورا القاعدة الشهيرة التي تقول إن «لا علم إلا بالكلّيات»، وقدم فكرة جزئية ومتواضعة لحل أزمة كبيرة وخطيرة ومعقدة. وفكرته هذه هي وقف إطلاق النار في مدينة حلب لمدة شهر ونصف ولا شيء بعدها أو يليها حتى الآن، على أمل أن تكون مشجّعة للمتحاربين لقبول تكرار التجربة في مناطق أخرى.
رفضت المعارضة السورية الخارجية مبادرة دي ميستورا لعدم جدواها وفق وجهة نظر هذه المعارضة. كما رفضتها المعارضة المسلحة في حلب وريفها لأنها، كما تعتقد، تعطي فرصة للسلطة السورية لنقل عسكرها إلى مناطق أخرى، وتقضي على سيطرة المعارضة على بعض مناطق المدينة، كما أبدت اعتراضها على شروط السلطة الأخرى واصفة إياها بالتعجيزية. أما السلطة السورية فقبلتها محرجة ومتوقعة رفضها من المعارضة السياسية والمسلحة، ولذلك زادت شروطها لتحقيق هذا الهدف.
بديهي أن أي تسوية للأزمة السورية ينبغي أن تأخذ باعتبارها الجوانب المتعددة والمتشابكة لهذه الأزمة. فبعض المعارضة السورية مثلاً يرى ضرورة الوصول إلى اتفاق على إقامة نظام سياسي جديد بديلاً عن النظام الحالي، نظام ديموقراطي تعددي تداولي، يأخذ بمفاهيم الدولة الحديثة، وهي ترى أنه مهما أصرّت السلطة القائمة على رفض هذا المطلب فقد تبلور خلال صراع دام أربع سنوات، ولم يعُد ممكناً عودة البلاد لحكم شمولي أو للخضوع للاستبداد والسلطة الأمنية، بينما ترفض السلطة إجراء أي تغيير في النظام، لأنها لا ترى ضرورة لذلك، ولاقتناعها بإمكانية تحقيق نصر عسكري. وهناك جانب آخر متعلق بالأزمة، هو الصراع العسكري الذي لا يرحم، وقد نشأت في إطار هذا الصراع فئات من المستفيدين من النهب العيني والمالي والرشوة والفساد والابتزاز والفدية، وجرت أنهار الذهب لتصبّ في أحضان وجيوب المتصارعين، وربما كان هؤلاء يرفضون أي تسوية. كما لا ينبغي إهمال ما يتعلق بمصالح الدول الإقليمية وغير الإقليمية التي تملك عملياً مفتاح الحل بما لها من نفوذ مالي واقتصادي وسياسي وعسكري على قوى الداخل، سلطة ومعارضة، إضافة إلى قضايا المعتقلين والمفقودين والنازحين والمدمّرة بيوتهم وغيرها. فأمام هذا الواقع المعقد، هل يمكن لمبادرة دي ميستورا الشفهية وغير الواضحة والجزئية التي لا تطمح لأكثر من تحقيق هدنة بين متحاربين لمدة شهر ونصف الشهر في مدينة واحدة، أن تفتح الطريق لحل شامل، كما يتمنى دي ميستورا؟ أم أنه، ومن ورائه الأمين العام للأمم المتحدة، لا يريان سوى الظاهر من كتلة الجليد الطافية فوق مياه البحر؟ أم أنهما يحاولان إضاعة الوقت وتبديده ريثما يتفق الأميركيون والإيرانيون نووياً؟
لا يبدو دي ميستورا على عجلة من أمره. وربما كان معجباً بطريقة كيسنجر وزير الخارجية الأميركي الأسبق وجولاته المكوكية بعد حرب 1973. مع فارق أن كيسنجر كان قد حدّد أهدافه بدقة، كما حدّد وسائله ووظّف الجولات والمماطلة وتضييع الوقت كأسلوب لـ «الحل» وقد نجح. أما دي ميستورا، فجولاته لا تخدم أي هدف باستثناء المماطلة وإشعار السوريين والرأي العام العالمي أن الأمم المتحدة تعمل لحل مأساة البلاد.
بانتظار أن يتم تناول الأزمة السورية كحزمة واحدة، وأن يوضع الإطار العام والمبادئ والسبل لبدء تفكيكها تمهيداً لحلها، سيبقى الشعب السوري يدفع ثمناً غالياً من دمه وماله ومدخراته، ويلاقي الدمار والقتل والبرد والجوع فضلاً عن الإهانات والذل.
إن سكوت الإدارة الأميركية عن مهمة دي ميستورا وجولاته ولغوه ومزاعمه وتخيّلاته ومقترحاته وأفكاره وتجاهلها، وسكوت الأمين العام للأمم المتحدة المقرّب من الولايات المتحدة أيضاً، يشيران إلى أن الإدارة الأميركية غير مهتمة الآن بإيجاد تسوية أو حل للأزمة السورية لأنها مشغولة بأمور أخرى. والبعض يراها تنتظر نهاية محادثاتها مع إيران حول برنامجها النووي ريثما تقرر موقفها من الأزمة السورية في ضوء نتائج هذه المحادثات، أو أنها بانتظار دحر المنظمات الإرهابية، أو أنها تتكامل مع الرأي الإسرائيلي الذي كان منذ البدء يرى بفائدة ترك السوريين يدمّرون بلدهم، فهل ما زال الرأي كذلك؟
لم تعد الأزمة السورية تُحل بجهود السلطة أو المعارضة، ولا برفضهما. فلم يعد لأي منهما دور في الحل الذي ينتظر توافقاً بين قوى إقليمية ودولية، من الولايات المتحدة، إلى دول أوروبية وإيران وروسيا. وبعض الدول الإقليمية العربية إضافة لإسرائيل، ولأن الحل صار خارج حدود سوريا، فإن هذا التوافق وحده الجدير بالوصول إلى تسوية ووضع شروطها وأساليب تنفيذها ثم فرضها على الأطراف جميعاً. فكل طرف من هذه الأطراف له من يمون عليه ويستطيع إلزامه بتنفيذ هذه التسوية التي لا يمكن أن تكون إلا فرضاً، وما عدا ذلك يبقى في حكم هدر الوقت وخداع النفس والتواطؤ متعدد الجوانب، بانتظار تحقيق أهداف الدول الأخرى، شقيقة أم صديقة أم غير ذلك، فقد أصبحت سوريا بلداً مشاعاً.