نوافذ

ماذا لو انكسرت مرآةُ العقل؟!

اليمامة كوسى

يقولون بأنّه ليس هنالك من إنسان على وجه البسيطة يخلو من المشاكل النفسيّة، ولا أعتقد بأنّه من الغريب سماع ذلك سيّما لمَن يفهمون جيّداً هيكليّة الإنسان وكينونته المتقاسَمَة ما بين جسدٍ وعقل، فبينما يقف الجسد مرئياً بوضوح على الطرف الأوّل من المرآة ينعكسُ العقل عميقاً على الطرف الآخر البعيد.

سمعنا الكثير عن عمليات زراعة القلب، تلك العملية التي يستبدلُ الطبّ فيها القلب المريض بقلبٍ آخر سليم، وهكذا يضعون قلب يامن مكان قلبِ مؤيّد ويبقى بذلك مؤيّد مؤيّداً، ولكن حتى الآن لا يوجد ما يسمّى بزراعة الأدمغة إن صحّت التسمية العجيبة هذه، ولكنني أفكّرُ بأنّنا إن نزعنا دماغ يامن ووضعناه في رأس مؤيّد سيغدو مؤيد يامناً بلا شكّ، فالعقل هو الميزة الممنوحةُ للإنسان عن كلّ مخلوق سواه، ليس فقط عن الحيوانات والنباتات وغيرها من الكائنات الأخرى وإنّما عن بقيّة أبناء جنسه أيضاً.

يطول الحديث إلى ما لا نهاية عندما يتعلّق الأمر بالعقل وأعتقد بأنّي سرحتُ بخيالي كثيراً ..

ولكنّ  السؤال الذي يطفو على السّطح الآن: ماذا لو انكسر شعاعُ العقل بدل أن ينعكس وهو يعبرُ تلك المرآة، خارقاً بذلك كلّ قواعد الفيزياء وأسسها؟!

ألن تنكسر تلك المرآة هي الأخرى على رؤوس أصحابها وتتناثرُ شظاياها الحادّة في كلّ الأرجاء؟!

إنّ مصطلح الأمراض النفسيّة أو الأمراض العقليّة يشوبه للأسف الكثير من الضبابيّة وسوء الفهم في مجتمعاتنا، فبينما يعتقد الغالبية العظمى من الناس بأنّها تشير للخلل النفسي فقط (أي في طبيعة شخصية الفرد)؛ يكون الصحيح هو أنّه لا بدّ من تواجد سبب بيولوجي يكون أساسيّاً لتظاهُر المرض النفسي، كالعوامل الجينيّة وخلل النواقل العصبية الموجودة في الدماغ، وغيرها من العوامل التي تُخلَق مع الإنسان ولا يد لهُ بها.

وأمّا عن العوامل البيئيّة والاجتماعيّة والنّفسيّة كالتعرّض للشدّات والرضوض النفسيّة خلال مراحل الحياة المختلفة؛ فهي على عكس المتداول تلعب دور المُطلِق لهذه الاضطرابات فقط، وليست المُسبّب لها على الإطلاق.

لنعُد الآن من حيث بدأنا فلا أحد منّا إلّا وسبق له أن مرّ بضائقات نفسيّة في مرحلة من مراحل حياته كالخوف أوالاكتئاب أو نوبات فقدان السيطرة أو كما يحلو للناس تسميتها ب”الانهيار العصبي”، فحتّى الغضب من وجهة نظر علميّة ينبئ بخلل نفسيّ ما.

ولكن دعوني أخبركم أمراً عرفته بعد مرورنا على قسم الطب النفسي في مشفى المواساة خلال الفترة الماضية لم أره بتلك الصورة الجليّة من قبل.

لقد اكتشفت بأنّ كلّ ما ذُكر آنفاً من مشاكل نفسية قد تطال أيّ منّا – ورغم كل ما تحملهُ من إزعاج وإرهاق وآلام لصاحبها لفترة زمنية قد تطول أو تقصر – اكتشفت بأنها لا شيء حقّاً!

ولست هنا أنتقصُ من قيمتها ولو ذرّةً واحدة ولكن يتوجّبُ عليّ أن أقول بأنها حقّاً لا شيء أمام هَول الاضطرابات العقليّة الحقيقيّة ببراكينها الحامية التي تثور في رؤوس أصحابها وتجعلها عاجزةً عجزاً قاتلاً عن إخمادها أو حتّى تهدئتها!

إنّ المرضى النفسيين يعيشون حياتهم بأكملها في خضمّ معاناة مستمرّة يتقاسمونها مع أفراد عائلاتهم المنهكين من ثقل الحمل المُطبق عليهم، فبينما يعود أسعدهم حظّاً إلى الحياة بعد محاولة انتحارٍ فاشلة يكون من الواجب عليه أن يتناول أتلالاً من الأقراص الدوائية لسنوات طويلة أو ربما طيلة عمره، وهذا كلّه ونحن لم نتحدّث عن وصمة الجنون التي يطبعها المجتمع عليهم إضافة لنظراته المتوجّسة منهم وأصواته المتهامسة حولهم كلّما عبروا في الشارع.

في كل يوم على مدار أسبوع كان أحد الأطباء المقيمين يأتي إلينا بأحد مرضى القسم الأكثر ارتياحاً حدّ قوله، فبعد جلسات التخليج الكهربائي تهدأ نوباتهم وتستقرّ حالتهم نوعاً ما، يجلس الطبيب والمريض وجهاً لوجه على كرسيين متقابلين بينما نحن نتابع حديثهما بصمت، أحد المريضات كانت تدعى جواهر، فتاةٌ في العشرين من عمرها مليئة بالطّاقة بحيث يستطيع كلّ من يسمع حديثها أن يستشفّ منه الذكاء والبديهة التي تتمتع بهما، وهذا ما لم نكن نتخيّل أن نراه لدى أمثالها، مع العلم بأنها كانت تسحب الحديث إلى الجهة التي تريدها هي وليس بحسب رغبة محدّثها.

أحزنتني رغبتها الموءودة بأن تصبح طبيبة بعد أن حدّثتنا عن المعاناة والمشاكل الكثيرة التي قاستها في سنة الشهادة الثانوية من ضرب أبيها وسوء معاملة زوجة أخيها برغم كونها من المتفوّقين في صفّها، إلّا أنّ مرض “ثنائي القطب” الذي حملتهُ لها جيناتها لم يكن أقلّ قسوةً عليها فأكمل ما ابتدأه فشلها الدراسيّ الذريع في ذلك العام لتصبح جواهر الحاليّة الباهتة  التي تتردّد إلى قسم الأمراض العقلية كلّ فترة بلا أيّ بريق يذكر.

هناك الكثير من المرضى الذين انطبعوا في ذاكرتي من ذلك الطابق المليء بالأسرار المختبئة وراء جدارنه والتي تنتظر مَن يجدها ويتفهّمها؛ لكنني أعتقد بأنّ ما كتبته كافٍ الآن ..

 بوابة الشرق الأوسط الجديدة

لزيارة موقع بوابة الشرق الاوسط الجديدة على الفيسبوك

لزيارة موقع بوابة الشرق الاوسط الجديدة على التويتر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى