بكين – دعتني سيدة ماليزية إلى تناول العشاء معها خلال فترة تواجدي هناك، إذ كنت قد التقيت بها وأنا أقوم ببعض الإجراءات الإدارية. حقيقة وضعني الأمر في حيرة وقد ترددت في الذهاب أو عدمه، إذ أننا في الصين وبسبب ضغط العمل نادرا ما يوجد هكذا أشخاص يبادرون بدعوتنا إلى تناول مأدبة بدون معرفة مسبقة.
كان الفضول يأكلني فأنا أعرف أهمية الالتقاء بالسكان المحليين في أي بلد، لا سيما أنهم يقدمون ما لا يمكن التعرّف عليه من خلال الكتب. ولكن وفي الوقت ذاته كان إلحاحها يثير استغرابي، فكّرت أنها قد تريد خطفي أو قتلي، تذكرت تحقيقا صحفيا أنجزته سابقا حول تجارة الكلى وآخر حول بيع القرنيات. حسمت أمري عندها، وأخبرتها أني مشغولة لا وقت لدي. ومع ذلك ترددت بعد إبلاغها قراري وقلت: “هل هي روح المؤامرة التي تأسست في داخلي منذ الصغر، هي السبب الرئيسي فيما يجعلني أعتذر”. تجاهلتُ هواجسي، ولجأتُ إلى الجانب الهندسي في داخلي: “نعود إلى الهندسة، ونصمم على الحالة الأكثر أمانا، لا داعي للمجازفة، ولن أذهب”.
وعلى الرغم من أننا قد نكون مخيرين في الكثير من الأمور، إلا أنّ للأقدار حصتها الكبرى في حياتنا، إذ أني التقيت بها مرة أخرى بشكل مفاجئ، وهو ما دفعها إلى دعوتي إلى العشاء مباشرة فقد كانت برفقة أولادها، وكانت تريدنا أن نتواصل مع بعضنا البعض. ذهبنا معا إلى مطعم سوري حدّثتني عن نفسها فهي أستاذة جامعية في مجال العلوم والجيولوجيا وتنحدر من أصول عربية وكانت تفكر بالقدوم والاستقرار في سوريا قبل الحرب كي تتعلم اللغة العربية بشكل جيد. حدثتها عن نفسي وعن إقامتي في الصين تبادلنا الأحاديث مدة أربع ساعات لم أشعر بمرورها. وفي الحقيقة وجدت أن تلك الحدود التي تفصل بين الدول هي حدود تحجب عنا الكثير من المعلومات والقضايا إذ أوضحتُ لها العديد من الأمور حول الصين وسوريا كانت تعرف فقط ما يدور في الإعلام والذي هو متحيّز إلى درجة كبيرة. بعدها مشينا في منطقة كانت قد احتلتها بريطانيا سابقا وشرحت لي تفاصيل كثيرة عن المكان. وعلى الرغم من أنّ الخوف مبرّر إلا أني عرفت في الوقت ذاته كم نضيّع بسبب خشيتنا من الآخر فرصة معرفته، تلك المعرفة التي تتيح مجالا للمحبة والتواصل. تذكّرت ما قاله مارتن لوثر كينغ: “الناس يكرهون بعضهم البعض بسبب المسافات التي تفصلهم عن بعضهم البعض، هم يخشون بعضهم البعض لأنهم لا يعرفون بعضهم البعض، وهم لا يعرفون بعضهم البعض لأنهم لا يتواصلون، وهم لا يتواصلون لأنهم منفصلون عن بعضهم ”
كم نحن خاسرون، فإن كانت معرفتنا عن الآخر تنطلق من أنه تهديد لنا، فإنّ الخوف وانعدام الأمان يجعلاننا لا نخسر فرصة معرفة الآخرفقط، لا بل نخسر معرفة أنفسنا من خلال هذا الآخر.
بوابة الشرق الأوسط الجديدة