تمارين لإتعاش الذاكرة
تمارين لإنعاش الذاكرة.. أجمل اكتشاف توصلت إليه في غمار السنوات الأخيرة هو أن محفوظات اللغة، شعراً وحكمة وآيات قرآنية، إضافة إلى الرسم ومراجعة الأرقام والتواريخ، تسعفنا كثيرا في إيقاظ الذاكرة الهاجعة وإنعاشها. ومنذ أن كنت في الخامسة، أي قبل ثمانين سنة وأسرار لغتنا الأم تشغلني، كما تشغلني أكثر من لغة أجنبية. وأحيانا أقف عاجزا عن فك الالتباس الذي يقارب في غموضه حد الإبهام. ومن حسن الطالع أني نشأت في بيت يحب القراءة والكتابة وحفظ روائع الشعر لإلقائه في السهرات أمام الضيوف للمؤانسة والإمتاع، وذلك أشبه ما يكون بالمقبلات التي تفتح الشهية لاستقبال مائدة شهرزاد، أو سيف بن ذي يزن، أو تغريبة بني هلال لاستكمال بقية السهرة. لم يكن في ريفنا الزراعي/ الرعوي مدارس، والقراءة في المصحف كانت بداية العلم والتحرر من الأمية. ومن الكلمات التي كان يصعب علينا لفظها الكلمة الأولى في الآية التالية من سورة البقرة: [فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيم].
ربما كان هذا الاستهلال غريبا على الشباب، ولا سيما من هواة المواقع الإلكترونية. لكن غالبية أبناء جيلنا تجد راحة فكرية وسكينة روحية غامرة في تلاوة ما تيسر لهم من آيات القرآن الكريم، إلى جانب ترديد ما يرد على خواطرهم من شعر، في أحوال الفجيعة وفراق الأحبة. كنت في التاسعة يوم فقدت الوالد، بعد سنتين من ختم القرآن على يديه والبدء بحفظ قصار السور، إضافة إلى سورة الرحمن. وهذا منهج تقليدي، كان آباؤنا وأخوتنا الكبار حريصين على اتباعه والالتزام به. وسوف أكتشف مدى أهمية هذا المنهج الشعبي المتوارث والباقي عبر الأجيال من شهقة امرئ القيس بليله الداهم كموج البحر حتى خراب الدورة الدموية لدى رياض الصالح الحسين.
وخلال اغترابي الذي تمادى نحو ربع قرن من الزمن العربي المهدور بلا طائل، خطف الموت ثلاثة من أخوتي، دون أن تتاح لي لحظة وداع أي منهم: الكبير الذي رباني، والأوسط الذي علمني الخط والحساب (الهندي) وإنشاد الشعر بإيقاع منغوم متوارث من أجدادنا على ضفاف الفرات، والأخ الثالث سعيد، أصغر العنقود وأغلى صديق أنيس رافقني بالعيش في دمشق خلال دراسته في كلية الطب. وفي أيامه الأخيرة، كنت أداعبه بحماقة عبر الهاتف ضاحكا: “إياك أن تسمح بمجيء الغراب قبل أن تتيسر لي زيارتك”، ولم أكن أدري أن الأجل يترصد لدى عتبة الباب. وأنا أدرك جيدا هذه الدراما الكونية في الولادة والحياة والموت، بلا تفجع ولا مناحة، منذ أن كنا في ضفاف العاشرة، والأمهات يطلبن منا أن نجلس على مقربة من رأس جد يحتضر.. نتلو ما تيسر من آيات الذكر الحكيم، لتكون آخر ما يتزود به في ختام رحلته. وبعد سنوات، قلت في وداع صديق عزيز: علّمتنا لغة الموت الفلسطينيِّ/ أن نستقبل البلوى كما العرس/ فلا نأسى طويلا لرحيل الأصدقاء/ يدرج الموتُ أليفا بيننا/ داخلا في كسرة الخبز البهيميّ/ وفي هسهسة الماء/ وأنفاس الهواء…
وأعود إلى أسرار اللغة وألاعيب الفتيان بالكلمات، هل اشتق أجدادنا العسل من اللسع أم كان الاشتقاق معكوسا؟ وعلى هذا المنوال، نسهر الليل ونحن نتبارى مرددين أن الربح انبثق من برحاء الحرب، والحبر من البحر الرحب، والعقم اشتق من عمق القمع، والفسق من فقس السقف، والعسف جاء من سعف النخل وأشواكه، ومتاعب السفر من رفس الفرس… وتطول اللعبة المسلية ولعلها لا تخلو من فائدة، ولو بتحريك الدم في عروق الدماغ. وقد ننتقل إلى لغة أخرى، ولتكن اليابانية، مثلا، وهي مستعارة من الصينية في القرن الثالث أو الرابع الميلادي، وأبناء الصين استلهموها بالتجريد من صور الطبيعة قبل أربعة أو خمسة آلاف سنة. فالنهر في اليابانية (كّوَا) Kawa، وهذه الكلمة لا يمكن أن ينساها العربي ما دام يعرف أن آخر الداء الكي. وشكله هكذا: 川 ثلاثة خطوط عمودية (مجرى وضفتان). والجبل (ياما) Yama وشكله كالنهر ثلاثة خطوط عمودية مرتبطة بقاعدة أفقية هكذا:山 وهذه أيضا من الكلمات التي لا تنسى ما دمنا نردد: (ياما لوعتنا تباريح العشق!) ولعل أطرف كلمة يابانية هي (شي) Shi وتعني (أربعة) كما أنها تعني (الموت) ولذلك ألغوا رقم أربعة من المشافي مراعاة للمرضى والزوار. وأول زلزال شهدته في طوكيو شعرت بهول من الرعب، وكنت أتحدث عن أبي نواس وشعره مع أحد طلاب الدراسات العليا، حين أخذت الطاولة الخشبية تهتز بيننا فاستغربت أول الأمر، ثم بدأت الكتب من خلفي تتساقط عن رفوفها، فسألته: (ما هذا؟) أجاب فورا: (جيشِنْ) Jishin ثم استدرك مباشرة: (زلزال، هزة أرضية). ومقلوب الكلمة ٍ(شيجِنْ) Shijin معناها: شاعر… وبعد عودتي إلى دمشق، وفي لقاء الصديق العزيز وزميل الصحافة العريق هاني الحاج، رويت له الحادثة فقال لي: شيء طبيعي أن يكون الشاعر (شِي جِن!) هل كنت تتوقع غير ذلك؟! وكان مصيبا في تساؤله لأن أجدادنا نسبوا قول الشعر إلى وادي عبقر، ولكل شاعر قرين من الجن في ذلك الوادي السحري.
بدأت تعلم اليابانية وأنا في عتبة الستين، وفي السنة الثالثة صارت أهون علي من الإنكليزية في الأحاديث اليومية، لكن اللغة لا تعيش إلا في التفاعل اليومي داخل الوسط الاجتماعي، لأن اللغة حياة، ولا فائدة في الرجوع إلى المعجم والبحث عن أشكال الكلمات إلا لإنعاش الذاكرة بتمرين يومي لا يزيد عن نصف ساعة صباحية مع كوب الشاي، ولا أراجع خلالها أكثر من عشر كلمات، أي في حدود ثلاثين جملة، أقلب معانيها ودلالاتها إيجابا واستفهاما ونفيا. أما اللغة اللاتينية التي سحرتني بدقة قواعدها، وما زالت حية ناضرة في ذاكرتي فهي تؤكد أن “العلم في الصغر كالنقش في الحجر”، وهذا من أقدم الأمثال التي سمعتها.
اللغة المصرية القديمة، الهيروغليفية، لغة الصورة، راح أحد الأصدقاء الأعزاء يتعلمها بعد أن بلغ الخمسين وقد قطع فيها مرحلة متميزة؛ وكم حاول إغرائي والبدء بتعليمي تلك اللغة المدهشة من خلال الخطوط والدوائر وصور الطير والنبات وهيكل الإنسان، لكني لم أفلح. وكم أتمنى لو أتيح لي اليوم أن أبدأ بتعلم اللغة السورية القديمة (الآرامية أو السريانية)، وهذا أيضا لإنعاش الذاكرة، فليس هناك أقسى من أن تنسى اسم صديق حميم، وتمضي ساعات وأنت تعتصر دماغك لاستحضار الاسم دون جدوى.
هذه تجربة خاصة ومفيدة، أقدمها إلى كل فتى من أصدقائي تخطى السبعين، لكنها تحتاج إلى مقدمة صباحية قبل النهوض من الفراش: عليك أن تؤدي بعض التمارين والحركات الصينية، وأنت مستلق على ظهرك، على أن تحرك أطرافك وجذعك ورقبتك، وتمسد وجهك وتفرك عينيك وأذنيك، 36 مرة لكل تمرين. ولا أعرف السر الصيني في هذا الرقم، لكني التزمت به فوجدته مفيدا… وبعد تناول كأس ماء ساخن قليلا ومزود بقطعة ليمون، من المفيد أن تمشي في الهواء الطلق ما لا يقل عن نصف ساعة، إن استطعت ولم تمنعك أوجاع الديسك… واسلموا لإبداعكم ومحبيكم.