فسحة استجمام
فسحة استجمام… غالبا ما أقف حائرا أمام هذه الخواطر التي تنعش ذاكرة العجوز. ذلك أن مروحة واسعة من الموضوعات تدور وتتلاطم في فضاء الذاكرة: هل أتناول زاوية من أيام الدراسة في جامعة دمشق؟
ولا سيما أنها كانت متوجة بتلك العلاقة الودية الحميمة التي جمعت بيننا وبين أساتذتنا، وأخص بالذكر منهم الأستاذ العزيز الدكتور غسان المالح الذي فتح أمام عقولنا المشرعة لارتشاف كل إبداع جليل مسرح شون أوكيزي، ذلك العبقري الذي هز المجتمع الآيرلندي من جذوره بأعماله المسرحية، ومنها “جونو والطاووس، المحراث والنجوم”.. وغيرهما. والأستاذ الأميركي الزائر ليو هاماليان (وهو من أصل أرمني) كان أستاذ الشعر والأدب العالمي، وكان يصحبنا إلى المركز الثقافي الأميركي، على مقربة من السبع بحرات، ليسمعنا بعض قصائد إليوت، والت ويتمان، وأودن.. مسجلة بأصواتهم على أسطوانات، إضافة إلى قصائد من طاغور، لامارتين، دانتي، لوركا، بوشكين، كما أننا درسنا بإشرافه باقة من الأعمال الروائية المتميزة، ومنها: “الجريمة لدوستوفسكي”، “كانديد” لڤولتير، “موبي ديك” لميلڤيل، “الشيخ والبحر” لهيمنغواي، “دون كيشوته” لسرڤانتيس” “آلام فيرتر” لغوته…
لكن الشعر سرعان ما يعلن احتجاجه ويتقدم باندفاع إلى الصدارة، وتبدو ليالي دمشق/ ربة الشعر الأولى وملهمة كل إبداع، وإن كان شعرنا الحديث مرتبط بالمآسي والغيوم السوداء التي تثقل الذاكرة بمشاهد غير مريحة، لكنها تشكل جانبا مهما من التاريخ. ونظرا لأن الشعراء والفنانين كائنات ليلية أشبه بالبوم أو الغربان، وأبعد ما يكونون عن قبرات الصباح الجميل، نراهم مولعين بالنعيب، وهم عاجزون عن محاكاة هديل اليمام، وأبعد ما يكونون عن مواسم الفرح. ولعل هذه الصورة تذكر بعض الأصدقاء المخضرمين باستحضار لمحات من ليالي الثمانينات الغابرة:
– اقرأْ…/ = لست بقارئ/ – اقرأْ باسمِ الحرية/ = لا يعنيني ندبُ الموتى/ – اقرأْ باسمِ الدين/ = لا أقرأ للكهان ولا للتجار/ – اقرأ باسم الدولار/ = يا بشرى، ماذا أقرأ؟/ – اقرأ هذا الإعلان:/
“جائزةٌ كبرى لمن يستطيع/ أن يجعلَ الشعبَ دمًى أو قطيع”!
القصيدة طويلة، وهي مؤلفة من عدة مقاطع، وذلك لأن عملنا في الصحافة كان يستنزف جهدنا ولا يبقى للتأمل وانسراح الخيال إلا تلك السويعات التي نتسكع خلالها في شوارع دمشق بعد العاشرة. ولأن الأجواء كانت غير مريحة، جاء التعبير غن انتصاف الليل مضطربا وغير محدد أهو في التاسعة.. أم الواجدة.. أم الخامسة؟ وهو انتصاف قهري قبل الأوان:
دقَّتِ الساعة التاسعة/ دقّتِ الواحدة/ ربما دقّتِ الخامسة/ تشابك برجُ الثواني سدًى ببروج السنين/ كوبُ شايٍ/ وكسرةُ خبزٍ متوَّجةٍ باللبن/ وفي وهلة الترفِ الموسمي/ نثارٌ من الزعتر الحلبي،/ حفنةٌ من زبيب../ ثم نستأنف المعركة/ . . . / لحظات.. وينتصف الليلُ قبل الأوان/ ها أنا ملك.. دون تاج ولا صولجان/ واليباب الذي يشبه الشام في سكرة الليلِ/ مملكتي/ رياح المدينة، رجع الصفير بساحاتها/ موكبي/ سهوب شوارعها الخاويات../ بساتين قصري/ ملك: لا جنود ولا حاشية/ سوى القطط الجائعة/ والبعوض الذي لم يحوِّش كفايته في النهار/ . . ./ السكونُ المريب يصيء/ ويرخي أحابيله خلسةً من وراك/ كأخلاط أبخرة خانقة/ وأنت تجوس الشوارع مستوحشاً/ كغرابٍ يتيم/ ولا شيء.. إلا وجيب خطاك/ . . ./ ثوانٍ.. وينتصف الليل في الثامنة/ البيوت التي وطئتها جبال من الخوف والقهر/ لمّا تنم../ ولكنْ يُخيَّل لي أنها ميّتة../ ربما لم تمتْ بعد، لكنها دخلت غمرة الاحتضار/ ربما آثرت أن تنام/ يا سلام!/ ما أحنَّ السماء على معشر العنكبوت/ حكماء الظلام/ وكلاء العمى والسكوت/ في بلاد تموت!
وفي الختام، فإن بلادا اقترنت بأسطورة الفينيق لا يمكن أن تموت، لكن الشعراء وحدهم يموتون في العراء كأسلافهم من الصعاليك الأوائل. ومن وحي أولئك الشعراء الذين جاؤوا قبل زمانهم، فتحت موقع (الشنفرى: للشعر والحرية والحياة) والمهندس السوداني الصديق عبد الله تاج هو الذي أشرف علي تنفيذه وتواصل مع الشركة الإلكترونية. وبعد سنة، كان لا بد من دفع الأجر، لكن خطأ ما (فركة زر! كما يقال) وقع.. وطارت الأجرة. وبات الموقع متاحا لكل زائر، ويكفي أني صرت إلى واحد من هؤلاء الزوار…
رمضان كريم ومبارك للأحبة كافة وهو موسم للاستجمام والراحة والتأمل. وأفكر بالتخلي عن الكتابة طوال أيامه الثلاثين.., وكل عام وأنتم بخير.