كتاب الموقعكلمة في الزحام

ماذا يصنع بائع البوظة في الشتاء

ماذا يصنع بائع البوظة في الشتاء ..انتهت مواسم الهزل إذن، وها هو الصيف يحزم حقائبه المملوءة بالفرفشة واللعب والعطالة، وها هي شموس آب تحل عن سمانا بعد أن أجبرت الناس على خلع أثواب الجد والتمايز والرصانة وجعلتهم يتساوون أو يكادون في المأكل والمشرب والمشلح والمسبح والمسلك.
قريباً يكفّ السياح عن سياحتهم والمصطافون عن صيفهم ويعود المغتربون إلى اغترابهم والتلاميذ إلى دفاترهم والفلاحون إلى محاريثهم والمسرحيون إلى خشباتهم .
قريباً يستأنف البحر مزاحه مع الصيادين والريح مشاكستها للخصلات وعبثها بأكواخ الفقراء وحبال الغسيل…
يعود سائق التاكسي للترحاب بالراكب المحلي، ومزجرو الشاليهات الى التثاؤب ويتفرغ الكثير لعدّ الغلة والنقود. قريباً تهجر الشواطىء وتزدحم مطاعم الفول والحمص، وتسكت موسيقا الأعراس والحفلات لتصدح مزامير بياعي الغاز والمازوت وتفوح رائحة الكستناء.
قريباً يغادر المدعوون قاعة الأفراح بعد أن يصافحوا العروسين ويدعوهما للابتسام والتلويح للمصوّر، تماماً كما يفعل فريق الكاميرا الخفية بالضحية بعد أكل “المقلب” أو الضرب.
تنقضي ليلة الدخلة ويمر شهر العسل في غفلة من كلمات الغزل فيتفرس العريس في وجه عروسه الخالي من المكياج ويسمع صوتها غير المستعار ’تحدق العروس بدورها في بعلها ذي القميص الشيّال وإبهامه يطل من جرابه المثقوب كالقضاء المحتوم…
قريباً تنتفخ بطن العروس مرّة كل عام ويرى الزوج همومه تمشي على الأرض ويلبّي بدوره دعوات أعراس الأهل والأصدقاء ثم يصافحهم و يربّت على أكتافهم وهو يبتسم في شماتة واضحة.
يتساءل في سره: لماذا يكتب عادة على بطاقة الدعوة (عائلتا فلان وفلتان تتشرفان بدعوتكم لحضور حفل زفاف نجليهما الآنسة فلانة والشاب فلان؟ ذلك لأن المحتفل الأكبر في هذه المناسبة هم الأهل.. أجل.. لأنهم تخلّصوا واستراحوا من عبء من جعلهم يضرسون بدليل أنهم يذيّلون بطاقة الدعوة بتنبيه صغير يقول: (جنة الأطفال في بيوتهم ) في طلب صريح إلى عدم اصطحاب الأبناء – خاصة الغلظاء منهم- كي لا يراهم العروسان وهما على “الأسكي” فيندمان على الساعة التي ابتسم فيها الأول للثاني أو ينزعجان من كل كلمة تهنئة تحمل عبارة (بالرفاه والبنين)… ثم لماذا يكثر الناس من جملة (دايمه بالأفراح) أو (كل عام وأنتم بخير)؟.. ذلك أنّ الفرح لا يأتي كل ساعة ويبقى انتظار قدومه سنوياً مثل أمنية… مجرد أمنية.
ويضيف المتشائمون: أن الاصبع التي لعقها الواحد في الصيف استمتاعاً سوف يقضمها في الشتاء ندماً بعد أن تنتهي العطلة القضائية وتفتح قاعات المحاكم أبوابها لقضايا المخالعة والطلاق.
أما المتفائلون فيصرّون على أن العسل يظل طعمه أبداً في طرف الاصبع واللسان، لكن للـ”متشائلين” رأي آخر، وهو أن عليك أن تحمد ربك لأن لديك اصبع كي تلعقها أو تقضمها وأن الله قد أطال في عمرك كي تعيش هزل الصيف وجد الشتاء.
ليس اعتباطا أن تغنّي أم كلثوم كل خميس من كل شهر في قاعة مغطاة لا تتسع الاّ لبعض المئات من السمّيعة غير الـ(المصيّفين)، وليس من باب المصادفة أن تجهز صالونات دور المسرح والسينما والاوبرا والمعارض الراقية بعلاقات المعاطف وحاملات الشمسيات والطواقي وتتوفر في بهوها المشروبات الساخنة , بينما لا نجد في مسارح الهواء الطلق غير باعة المثلّجات والمراوح اليدوية ومضخمات الصوت والأضواء الليزرية .
الشمس تفعل فعلها في انتاج الفن وكيفية تلقيه لأن الابداع لا تصنعه إلاّ الرؤوس الباردة والقلوب الدافئة مع تقديرنا العميق لثقافات الشعوب الاستوائية.
من قال أن الصيف هو فقط فصل للراحة والعطالة، إنه أيضاً موسم للعمل لدى المأذون وبائع البوظة والياسمين وأصحاب الحفلات من مغنين ومتعهدين قبل أن يداهمهم الشتاء مداهمته للصرصار المسكين وتشمت فيه النملة التي لا تعرف الراحة الاّ في القبر أو تحت أقدام الحصّادين.
الصيف ضيف كما تقول الجدات وهذا الضيف يجب أن يكرم ثلاثة أشهر على أقصى تقدير ثم يتجه أهل الدار إلى قضاء حوائجهم ومعاودة نمط نشاطهم.
وأخيراً … من الضيوف من هو أثقل من الجبال وأوقح من حكومات الفساد، فإمّا يعتاده المضيف فيغيّر من سلوكه لأجله وإما العكس… وتخيلوا النتائج.

 

09.09.2013

بوابة الشرق الاوسط الجديدة

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى