كلمة في الزحام

زيتون

حكيم مرزوقي

زيت الزيتون يؤنس وحشة التونسيين حين يقابلونه على شكل علب وزجاجات أنيقة في المتاجر بالخارج، ويلاحقهم أينما حلوا في شتى أصقاع الأرض، فكأنما هو الملاك الحارس لشعب تربى تحت شجرة وارفة الظل ودائمة الخضرة والعطاء.

لكن غصة ما تنفك ترافق كل قطعة خبز مغمسة بزيت الزيتون في أيادي البسطاء، وهي أن أسعاره تعصر الفقراء عصرا في بلد يحتل المراكز العالمية الأولى في الإنتاج والتصدير.

ويتبع هذه الغصة تنهدات كثيرة أخرى تبدأ من مواسم الجني والقطاف التي اقترب موعدها، وتستغل الأيادي العاملة من النساء في أقاصي الأرياف التونسية ثم تمتد لتشمل أفارقة جنوب الصحراء الذين يعمل بعضهم في زيتون يحسده على السفر آمنا إلى الضفة الشمالية للمتوسط.

أما الأكثر تراجيدية فهو مشهد أفارقة جنوب الصحراء في حر الصيف وهم يستظلون تحت الشجرة الواحدة في حر الصيف مقابل ما يعادل الدولارين يقبضها منهم السماسرة والمنحطون من تجار البشر الذين يشحنونهم فيما بعد فوق ما يشبه المراكب التي تقذفهم في عرض البحر طعاما للأسماك.

يحدث كل هذا على مسامع وتحت ظل شجرة تعطي أولى الثمار في عامها الخامس، وتبلغ ذروة العطاء في سن الأربعين، ليستمر اخضرارها بعد ذلك لمئات السنين، شجرة مباركة” لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ”.

تجول في بالي كل هذه الخواطر وأنا أعود اليوم إلى بستاننا المتواضع الذي ورثته عن أبي مع المعصرة الحجرية ذات الأصل الروماني فيحتل كياني شيء واحد اسمه الزيتون طعما ورائحة وملمسا ولونا ساحرا يسيل كتعاويذ النساك والمتبتلين على إيقاع رحى حجرية عملاقة ترسم المصائر والدوائر المغلقة.

أغفو تحت شجرة “التكوبري”  العملاقة، والتي تعطي ثمارها في شهر أكتوبر، وتسابق قريناتها إلى التبشير بمواسم الخير ثم أرى في المنام أشجارا وأشجارا ثم أشجارا تصطف لا متناهية كنهر من الصلوات.. لا بأس فمفسر الأحلام الشهير ابن سيرين يدلل على أن رؤيا شجر الزيتون في المنام تعد أفضل من رؤية ثمرة الزيتون نفسها.

كبرت مع شتلة سوف تعمر من بعدي وتحكي لأطفالي قصة ابريق الزيت هذا، وكيف كانت أمي عند أول عصرة من أول قطفة تفتح بأصابعها فمي الصغير  بأسنانه اللبنية، تبسمل، تردد بعض التعاويذ الأمازيغية ثم تتلو بلسان عربي فصيح “اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ”.

عندئذ، اجتاحتني طمأنينة هواؤها من برودة هذه المعصرة المحراب، وسري في عروقي دم أخضر يعرفني إلى مذاق الأبدية، ويذكر بشجرة قال عنها محمود درويش”لو يذكر الزيتون غارسه لصار الزيت دمعا.. يا حكمة الأجداد لو من لحمنا نعطيك درعا، لكن سهل الريح لا يعطي عبيد الريح زرعا”.

يوابة الشرق الأوسط الجديدة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى