التآلف الأسري قد يهزم كورونا.. أو يحرجها
التآلف الأسري قد يهزم كورونا .. تناولت مواقع التواصل الاجتماعي في تونس، بالسخرية والتعليق، صورة مسؤول حرص أن يضع خاتم زواجه فوق قفازه الواقي من التلوث الفايروسي، وذلك ليبين لزوجته شدة حرصه وإخلاصه، وعدم تنكره للرابط الذي يجمعهما، حتى في أقصى حالات الهلع من كورونا.
انتصر “الخوف من غضب الزوجة” في نظر هؤلاء الماكرين من المعلقين، على حدة الخوف والتوقي من كورونا.
يذكّر الأمر بتلك الأسئلة المحرجة التي يطلقها بعض المستهترين والغوغائيين على بعضهم بعضا لاختبار مدى محبتهم وإخلاصهم في الظروف الاستثنائية كأن يجعلوك بين خيارات صعبة بين الأم والابنة والأخت والزوجة، أمّا الحماة فتنال نصيبها مع كل “نكتة عائلية” يطلقها الرجال في مجالس الرجال.. ولكن، مهلا، أليست حماة زيد هي أمّ عمر؟
كل حماة هي محل سخرية وتنمّر لفظي في المجتمعات العربية، حتى أنها لم تنج من موجة النكات التي تزامنت مع كورونا أول ظهوره، كقول أحدهم إنه وفي حالة ظهور أعراض الفايروس لديه، سوف يحاول إلى طلب العفو والسماح عبر تقبيل يدها وجبينها.
أمّا عن الأم، فلم ينبس ابن أنثى بأية عبارة في حق من ولدته على مواقع التواصل الاجتماعي، إلا ما ” رحم ربك” من كلمات التودد والدعاء وطلب الرضا.
غريب أمر فئة كبيرة من العرب والمسلمين.. يهينون بناتهم وشقيقاتهم وزوجاتهم وزميلاتهم، وحتى عابرات الطريق ثم يمجّدون الأم وكأنها جنس ثالث.
المشكلة تتعلق بنوع من التفاضلية المغلوطة والفهم الأهوج والمنقوص لبعض التعاليم الدينية الداعية لاحترام الأم، ظنا من هؤلاء أن أرقى ما يمكن أن تكون عليه النساء هو أن يكن أمهات تُلتمس الجنة من تحت أقدامهن، أما ما عدا ذلك، فزوجة متسلطة أو ابنة ينقصها تقويم أو شقيقة مستضعفة أو زميلة متحرشة.
ليس لهذا الوباء من فوائد طبعا، لكن ما ينبغي أن نستفيد منه ويبعث الأمل في نفوسنا، هو الوقوف عند جملة دروس وعبر غنمناها من حالات الحجر والتوقي، وأوقفتنا عند حقائق لم تكن واضحة وجلية في فترة ما قبل الحظر.
كان خاتم الزواج قبل ارتداء القفاز، مجرد أكسسوار قد نخلعه من أصابعنا عند الاستحمام وننساه على حافة الحوض، لكن القفازات وسوائل التعقيم جعلتنا نتذكره كل دقيقة.. هذا بالإضافة إلى “الرقيب” الذي يلازمنا ونلازمه على مدار الساعة، وكأن حياتنا اليومية استحالت إلى حالة انضباط عسكري غاية في التأهب والصرامة.. هل لمحتم عسكريا في أهبة الحراسة دون أهبة وخوذة وسلاح؟
الذين ينظرون إلى ثيابهم وهم في البيجاما، ينظرون إليها بحسرة كسجين يتذكر الحياة المدنية بألم وحنين، ليس بوسعهم الآن إلا أن عيدوا كيها وارتدائها، يلمعون أحذيتهم ويحلقون ذقونهم ثم يرافقون زوجاتهم من المطبخ لإلى الصالون وهن بكافة أناقتهن، ليسهروا إلى ما شاء لهم الوقت ثم يعودون إلى غرف نومهم بعد قضاء سهرة رائقة داخل هذا الفضاء المنزلي الذي صار واقعيا وافتراضيا على حد سواء.
أنا على يقين أن صلة الرحم، ومواساة المرضى ومؤازرة المنكوبين، صارت أكثر ألفة ونشاطا من ذي قبل.. وإن كانت تتم عبر مواقع التواصل الاجتماعي.
حياة جميلة ودافئة تحدث فترة الخوف على حياتنا والوقوف على تخوم الأشياء، ذلك أن الأيادي تصبح ممدودة ومبسوطة، القلوب مفتوحة وكبيرة، والنفوس رحيمة وكريمة إلى أبعد الحدود.
ليس تمجيدا لحالات العزلة والابتعاد عن البشر، ذلك أن الإنسان “مدني بطبعه” كما قال واضع علم الاجتماع العربي عبد الرحمن بن خلدون ـ وهو الذي عاش الأوبئة وتحدث عنها ـ لكن الإبقاء على المسافة المادية المحسوسة بينك وبين الناس، تزيدك فهما للناس وتقديرا لخصوصياتهم التي لم يكن يقدرها أولئك الذين يشتتون أنفسهم ويبعثرونها في المقاهي والتجمعات، هروبا من مواجهة أنفسهم.
القارئ لشبكات التواصل الاجتماعي، يقدر في الفترة الأخيرة وأمام هول أرقام ضحايا هذه الجائحة، تراجع النكت والوقائع المستهترة بالفايروس، لصالح الكلام الهادئ الرصين والمسؤول.
انتهى عصر المزاح إذن، ولم يعد الخاتم الذي يرتديه المسؤول خلف القفاز، يثير الضحك والاستخفاف والتعليق.. لقد بدأ يتضح لدينا ـ وبعد انجلاء غمامة التهكمات ـ أنه حالة إخلاص استثنائية لشريكة حياته، وتذكيرها بأن خاتم الزوجية ” تعويذة” أبدية لطرد الشؤم وطلب العافية والوئام والسلام.
الرجال والنساء يحفظون صور أطفالهم وبعضهم بعضا في جزادينهم وحاملات أوراقهم عند التنقل والسفر، ولو لمسافات قصيرة خارج البيت، وذلك للتأكيد على رابط أسري يجعل الواحد يحس أنه ليس وحده، ويباهي بأسرته في حالات الغربة والبعد.. وكذلك الإقامة في السجون أو المستشفيات.
ها نحن نقيم اليوم مع أسرنا وأطفالنا أكثر من أي وقت مضى، لكننا نحتفظ بخواتم الزوجية على أصابعنا وصور أطفالنا في حافظات نقودنا.. نعم، تفرغ هذه الحافظات من النقود، لكنها لن تفرغ يوما من صور أحبائنا.