التعليم: إهانة … وتكريم
التعليم: إهانة … وتكريم… تم اختيار أحد المعلمين كأفضل معلم على مستوى الجمهورية ضمن مسابقة وضعت لها شروط ومعايير معينة استوفاها جميعها ذلك المعلم. وفي بادرة لتكريمه، قام وزير التربية والتعليم بإصدار شهادة استثمار باسم المعلم بقيمة (30 جنيهاً) بما يعادل (3 دولارات)!! وتلك الشهادة لا يمكن صرفها إلا بعد عشرين سنة!!! حدث هذا في أحد البلدان العربية مؤخراً. رفض ذلك المعلم هذه الجائزة التكريمية معتبراً أنها إهانة في حقه وفي حق قطاع التعليم بأكمله.
خضع هذا الخبر لمقارنة مع ما قامت به المستشارة الألمانية (ميركل) التي رفعت رواتب المعلمين في ألمانيا بنسبة 20% بحيث أصبحت شريحة المعلمين هي الأعلى ضمن شرائح الموظفين في ألمانيا من حيث قيمة الراتب الشهري والامتيازات الوظيفية. لم يمض هذا الأمر جزافاً عند شرائح الموظفين الأخرى (من مهندسين وأطباء…)، حيث قاموا بالاحتجاج في أحد المؤتمرات التي تواجدت فيها المستشارة الألمانية وطلبوا منها مساواتهم بشريحة المعلمين. كان جواب ميركل لهم: كيف أسوايكم بمن علمكم.
تلك التفاصيل التي أتيت على ذكرها أعلاه ليست من عندي، ولست مصدرها بل جاءت وحرفياً على لسان أحد مقدمي البرامج الاجتماعية في محطة تلفزيونية من محطات ذلك البلد العربي.
أود هنا أن أضيف معلومة تتعلق بالقطاع التعليمي في السويد، حيث شاهدت حلقة من برنامج وثائقي يتحدث عن أساليب تطوير قطاع التعليم والتجارب التي مرت بها بعض الدول في هذا المجال، وكانت الحلقة التي شاهدتها عن قطاع التعليم في السويد. أخبرت تلك الحلقة مشاهديها بأن تصنيف السويد تعليمياً كان تقريباً الأدنى عالمياً حتى الستينيات من القرن الماضي. لفت هذا الأمر أحد المختصين بقطاع التعليم وأحواله وهو أمريكي حيث برز أمامه سؤال مهم : كيف استطاعت السويد التخلص من هذا التصنيف المتدني جداً لتلحق بركب التعليم المتقدم وتصبح أحد ثلاث دول هي الأولى في التصنيف عالمياً؟؟ استدعاه الأمر للبحث مطولاً وقرر بأن عليه أ يزور السويد ويجتمع مع المسؤولين المعنيين بقطاع التعليم لمحاولة التوصل إلى إجابة شافية.
اجتمع ذلك الباحث الأمريكي، عند وصوله إلى السويد، بأكثر من مسؤول وطاف على عدد من المدارس واجتمع بعدد من مدراء تلك المدارس وببعض مدرسيها ليكتشف بأن الأمر يتلخص بإعادة النظر جذرياً بكل الأساليب التعليمية المتبعة، وبالانتقال إلى فلسفة تعليمية مختلفة تماماً عن سابقتها تعتمد بالدرجة الأولى على مايرغب به الطالب تعليمياً وبأن يقرر هو الكيفية التي يجب أن تكون عليها الفسح بيت الحصص التعليمية ونوعبة الألعاب التي يجب توفرها في باحات المدارس والمدى المفتوح لهذه الباحات التي تلبي حاجات تحركه الجسدي. وكل ذلك تم بعد دراسات معمقة قام بها القطاع التعليمي واستفاد منها في بناء منظمة تعليمية جديدة كان من نتيجتها أن ارتفع المستوى التعليمي خلال أقل من عشرة أعوام ليضع السويد في مصاف أحسن الدول تصنيفاً على المستوى العالمي.
يثير هذا الخبر مواجع لا حصر لها تتعلق بقطاع التعليم في وطننا العربي مقارنة بما هو عليه ليس في أوروبا فقط بل وفي معظم الدول الآسيوية. لا يتعلق الأمر بموضوع التكريم من عدمه بقدر ما يتعلق بالمنظمومة التعليمية ككل، إذ أن معظم منظوماتنا التعليمية قد شاخت بما فيه الكفاية من حيث المناهج الدراسية المعتمدة وطرائق التدريس والمناخ التعليمي وعدد الطلاب الذين يتم استيعابهم في المدراس ونوعية المدارس الموجودة من حيث أنظمة البناء وحجوم الأبنية المدرسية وعدد الحصص التعليمية والكفاءات المطلوب توفرها لدى الكادر التدريسي ونظم إدارة المدارس والمؤسسات التعليمية.
إن من يتمعن بأي منظومة تعليمية في وطننا العربي ويخضعها للمقارنة مع بعض دول العالم الأخرى ولنقل الأسيوية منها، حتى لا نقع في دوامة الفوارق الحضارية مع الدول الغربية، سيجد أن منظومتنا تعاني من خلل فاضح ومن قصور يشل قدراتها ويحد من نتائج عملها، وهذا ماينعكس سلباً بالتالي على كل قطاعات المجتمع. إن بنية أي مجتمع تعتمد أساساً في عملية تطورها وتطوير آليات إنتاجها على الإنسان، وحين تكون البنية العقلية والتعليمية والثقافية لهذا الانسان سليمة ومعافاة أمكن له أن يطور بنية المجتمع بالاتجاه الصحيح.
إن إدراك أهمية هذه النقطة ووعي ضرورتها، يفسح المجال لخطوات فعالة نحو التطور في المنظومة التعليمية وإعلاء أهميتها ووضعها في الصف الأول من الرعاية والاهتمام، وهذا ماحصل بالضبط في تجارب عدة كالتجربة الماليزية والسنغافورية والكورية والألمانية والسويدية على سبيل المثال لا الحصر.
لقد حان الوقت فعلاً لإعادة النظر جدياً على المستوى العربي كله في المنظمومة التعليمية والعمل على استبدالها بمنظومة تعليمية أكثر ديناميكية وأكثر تطوراً بالاستفادة من تجارب الدول الأخرى في العالم وبما ينسجم مع مجتمعاتنا وإعطائها الأولوية من حيث الاهتمام والرعاية خاصة بعد التجربة القاسية التي مررنا بها تحت ما يسمى ” الربيع العربي” الذي كان مرتعاً للإرهاب الذي استفاد من عقول أبناء هذه الأمة ووجد فيها ثغرات جدية مكنته من السيطرة على أجيال الشباب وحرف اهتماماتهم نحو مزيد من التخلف والضياع.