السيرة الكبرى للخمور بين التاريخ والأنتروبولوجيا
يستهل الكاتب الصحفي التونسي كمال غرار، كتابه المثير ” السيرة الكبرى للخمور بين التاريخ والأنتروبولوجيا” بمقولتين شكلتا البوابة الكبرى للولوج في عالم الشرب وتعاطي الخمور عبر التاريخ.
المقولة الأولى للكاتب الأميركي ذي الأصول الألمانية تشارلز بوكوفسكي، وفيها يمجد الخمر بقوله: إذا حدث لكم شيء محزن فاشربوا لنسيان الآلام وإذا حدث شيء مفرح فاشربوا بقصد الاحتفال.. أما إذا لم يحدث شيء فاشربوا لتحريك السواكن وخلق الحدث.
المقولة الثانية في استهلال كتاب كمال غرار، جاءت من التاريخ القديم على لسان عمر الخيام في رباعياته، وفيها يتساءل شاعر المتعة والخمريات عن جدوى الفردوس إذا خلت من عشاق الشراب.
المؤلف المكتوب بلغة فرنسية رشيقة تقترب في بعض الأبواب والفصول من الشعرية يتوغل في عالم المشروبات المسكرة شرقا وغربا، قديما وحديثا، مع التركيز على العالمين العربي والإسلامي في إشارة إلى تجذر وعراقة المشروبات الروحية في هذه المنطقة.
الكتاب عبارة عن مسح شامل لتاريخ وجغرافية المشروبات المسكرة وعلاقتها بالإنسان الذي أفرد لها مساحة كبيرة من اهتماماته في جميع طقوسه الاحتفالية ونشاطاته البشرية كالزراعة والصناعة والتجارة.
مقاربات أنتروبولوجية يزخر بها الكتاب في تناوله لقصة الشراب عبر مختلف الأمصار والأعصار، وكأنه يريد أن يؤكد نوعا من اللوغو القائل “الإنسان حيوان يسكر” ولكن مهلا.. فطلب الشرب لأجل السكر والمتعة لا يقتصر على الإنسان وحده فلقطعان الفيلة والقردة في أدغال أفريقيا صولات وجولات في هذا الباع، ذلك أنها تقدم على تناول بعض أنواع الثمار المتساقطة من أعلى الأشجار بعد أن تكون قد تخمرت وقتا كافيا في المستنقعات والبرك الآسنة.
وهكذا تبدأ هذه الحيوانات بالهياج والعربدة ومن ثم الاسترخاء بعد أن تكون قد تناولت حصتها من تلك الثمار المستباحة.. مثل هذه المعلومات والحقائق الطريفة نتعرف إليها مع كتاب غرار الذي أحاط بكل كبيرة وصغيرة في عالم الشرب وأسراره في تلك المنطقة التي عمل وأقام فيها مثل تنزانيا.
يستجمع الكتاب بين دفتيه تاريخ وأصول الشرب، علاقتها بالعقائد والأديان، بالآداب والفنون، بالعلاقات الاجتماعية، بالإضافة إلى تخصيص فصل يبحث في تاريخ الشرب بالبلاد التونسية، وفيه يكشف عن وقائع وأحداث رافقت المشروبات الروحية في هذا البلد الذي يحتل الصدارة في استهلاك البيرة بالعالم العربي بل وربما العالم.
يتوسع الكتاب في بعض فصوله إلى درجة التخصص العلمي الدقيق كما في وصفات إعداد وتحضير بعض المشروبات أو الصور المرفقة بالتعليق كاشفا عن نوع من الهوية التي تطبع كل بلد من خلال مشروبه الوطني.
وتتمثل قيمة هذا الرصد والتوثيق بحفظ ذاكرة بلد بأكمله من خلال مشروباته كما هو الحال في السودان وليبيا التي يخال القارئ العادي خلو تاريخها من تصنيع المشروبات، بينما هي قد عرفتها فترة الاستعمار الإيطالي وحقبة الحكم الملكي من خلال بيرة “أويا “الشهيرة.
كتاب ” السيرة الكبرى للخمور بين التاريخ والأنتروبولوجيا” الذي يباع في المكتبات التونسية ويتطلع إلى طبعة ثانية في بعض البلدان الفرانكفونية باعتباره مكتوبا بلغة موليير، بل ويزيد إليها نكهة شرقية وأفريقية عبر الخوض في موضوع شبه محرم في العالم الإسلامي.
وما يكسب هذا الكتاب فرادة هو عدم اكتفائه بالتجميع والتوثيق، وإنما لا يخل من إضاءات تحليلية وإحالات مرجعية في كل ماهو بسيكوسوسيولوجي أو علم نفس اجتماعي يمكن الاتكاء عليه في قراءة ظواهر مجتمعية عديدة.
وتأتي قيمة هذا الكتاب في كونه يغني المكتبتين العربية والفرانكفونية اللتين لم تعرفا هذا النوع من الكتابة في المشروبات الخمرية من قبل إلا على شكل تقارير وفصول فرعية غير متخصصة.
ولم يغفل غرار عن التطرق إلى مواضيع فقهية أثير فيها الجدل حول تحريم الخمرة في الإسلام كما حدث مع المفكر والباحث التونسي الراحل محمد الطالبي، الذي تكالب عليه الأصوليون والسلفيون وحاولوا تأليب الناس عليه بسبب رأيه في مدى تحريم القرآن للخمر من عدمه.
كذلك الأمر في فصول عديدة من الكتاب يستعرض فيها المؤلف علاقة الطبقة الحاكمة بالمشروبات حتى في أشد الأوقات حساسية مستشهدا بما أورده الباحث المصري محمد سعيد الشمالي، وغيره من الذين عرفوا بآرائهم الجريئة في هذا الصدد.
إن التطرق إلى موضوع شرب المسكرات في العالمين العربي والإسلامي لهو أشبه بالسير في أدغال مجهولة، محفوفة بالصعوبات، لكنها مليئة بالمفاجآت، لذلك وجب التسلح بنظرة انتروبولوجية ثاقبة تجنبا لمنطقي الاستسهال والتعميم.
كما أن وضع كتاب في المشروبات الكحولية بهذه الدقة والحرفية وفق منهج سرد سوسيولوجي ثقافي لهو في حد ذاته إنجاز يحسب لصاحبه، وذلك لجرأته في التطرق إلى موضوع شبه محظور أولا، بالإضافة إلى القيمة المعرفية والتوثيقية ثانيا.
وما جعل العديد من مثقفي تونس يحتفون بهذا الكتاب هو فرادته المعرفية وعدم سقوطه في فخ الاستفزاز والتقول أو المدح المجاني للشرب، وإنما جاء مدعما بمجموعة من الآراء والوقائع والكتابات لعلماء ومتخصصين، مما جعله يسد فراغا هاما في المكتبة ومتاحا لمختلف المستويات المعرفية بأسلوبه الطريف وعبارته السلسة مثل كأس دهاق.