الضمائر الزئبقيّة
الضمائر الزئبقيّة .. أتحدّى أي قاموس أجنبي– وبأيّ لغة كانت – أن يترجم كلمة (ضمير) العربيّة بدقّة وإخلاص و ضمير.
هل لأنّ الترجمة فعل(خيانة ) بطبعها وتتّصف بغياب (الضمير) الذي ينقل طعم الكلمة ورشاقة النطق والإحساس بها من خلال حفرياته الخاصة في الذاكرة والوجدان وإحالاته إلى مسارب أخرى متشعّبة لا يحيط بها علم صحيح.
هل لأنها كمن يستنبت غرساً في غير تربته ومناخه، فيمسي مثله في ذلك مثل من يسكب شراباً أو طعاماً إلى غير الوعاء الذي صنع لأجله واهماً أنّه لن يخسر من كميّة ونكهة وطقوس تناول المحتوى المنقول …. ومهما كانت براعته وحرصه ودقّته في عمليّة السكب.
كل هذا يبدو صحيحاً ومتوقّعاً في الترجمة التي هي شرّ لا بدّ منه وجسر حضاريّ بين ثقافات الأمم … وهل يستقيم بناء الجسور دون تحطيم الصخور والتعدّي على بكارة الطبيعة وبعض الممتلكات العامة والخاصة……….
لكنّ كلمة (ضمير) – وبالتحديد – تبقى المادة (الزئبق) في محاولات الامساك بخفاياها وذلك نظرا لخصائصها المحيّرة :
هي ذات جذع لغوي ثلاثيّ واحد:(ضمر)، لكنها متعدّدة الأبعاد متقلّبة المزاج، ملتبسة الدلالات، فالضمور يؤدي معنى الضعف والنحافة والتلويح بالاختفاء كما يعني الظرف وخفّة الروح والابتعاد عن الثقل والسماجة في قول العامة: فلان (ضامر) أي صاحب نكتة وتعليقات طريفة لما له من خفّة وظهور محبّب.
أخرج النحاة الضمير من سياقه الاصطلاحي وجعلوه كناية عن أسماء المتكلّم والمخاطب والغائب، فرداً ومثنّى وجماعة، ذكراً وأنثى، عاقلاً وغير عاقل …. ظاهراً ومستتراً , منفصلاً ومتّصلاً، مقدّراً ومعلوماً .
أمّا الشائع لدى مجتمعاتنا العربية فإنّ الضمير يرتبط بالإخلاص والاستقامة والبعد عن الكذب والغشّ في قولهم :(فلان يعمل بضمير ) وهذا يعني أنّه ينتمي إلى أقليّة… وإلاّ لما ذيّلوا فعل (يعمل) بكلمة (ضمير) … على عكس ما هو متداول في اللغات اليابانية والصينية والألمانية مثلا … والتي تكتفي بعبارة (يعمل) دون حاجة إلى رشّ (بهارات الضمير) فوقها….!
ليسمح لنا النحاة إذن بالجزم أنّ كل الضمائر لدينا هي منفصلة وليست متّصلة، مستترة … بل وأغلبها غائبة وليست مقدّرة كما ينبغي.
يحشد ابن زيدون كلّ الضمائر، ويوظّفها وجدانيّاً في مناجاة (ولاّدة) داخل أروقة قصور قرطبة التي عمّرتها الدسائس وغادرتها الضمائر في قوله :
(تكاد حين تناجيكم ضمائرنا يقضي عليها الأسى لولا تأسّينا).
*هامش :
ننصح المترجمين أن يشيروا في هوامشهم إلى أنّ للضمير استخدامات كثيرة أخرى لدى العرب، مازالت مستترة وأنّ من الدارسين من يرجّح بأنّه مفهوم أسطوري لا وجود له على أرض الواقع.