القراءة.. بين الفن والمهنة
القراءة.. بين الفن والمهنة… يمامة شامية أرق وأغلى من أزهار الياسمين الدمشقي، كلما قرأت كلماتها أو تخيلت دفء صوتها وطيب حنانها الإنساني الأصيل، أتمنى لو أنعم الباري ومنحني ريحانة مثلها، بدلا من شوك القنفذ والعقوق… وهذه الريحانة الغالية هي التي أنعشت ذاكرتي وألهمتني بالكتابة من جديد، بعد غفلة طالت أسابيع لأن الطفولة الثانية بعد الثمانين تغري بالاسترخاء التأملي والتكاسل الرمادي البليد. وها أنذا أنفض الغبار عن الراقم، أعني الكومبيوتر (وهي ترجمة خاصة من وحي أخوان الصفا). وهنا أبدأ الكتابة عسى أن يتاح لي لقاء الأصدقاء وقراءة خواطرهم ولو بطريقة افتراضية…
حين يدعوك ظرف ما، مزاجي، رغبي، أو قسري، للابتعاد عن البيت والحرمان من نعمة القراءة والكتابة، تشعر بأنك محاط بفراغ كوني، إلا أنك تحاول أن تجد عزاء أو تسلية بديلة. ولعل قراءة وجوه الناس والاستماع إلى هواجسهم وشواغلهم وحتى ضحكاتهم، إلى جانب قراءة ملامح الطبيعة ومعالم المدن، هذه البدائل لا تخلو من متعة وفائدة، وهي تسهم في إطلاق الخيال وتجعل الحديث مع الأشجار أو الكثبان، صخور الجبال أو ناطحات السحاب في المدن.. رياضة منعشة للفكر ونزهة تأملية مريحة للنفس من عناء العزلة المنزلية، واصطدام النظر والتفكير بجدران البيت العارية الملساء…
لكن ظروف الجائحة لم تكن سلبية قاحلة تماما، بل أتاحت لي أن أقرأ في السنة الماضية نحو ثلاثين كتابا، معظمها روايات عربية وعالمية، إلى جانب عدة بحوث فكرية وبضع مجموعات من الشعر، إحداها في الحكمة الصينية، وثانية قصائد هايكو يستغرق كاتبها عميقا في صوفية الزن البوذية لأنه كان يرافق طفلته في المستشفى، وهي مصابة منذ ولادتها بعطب في القدم استغرق علاجها سنة أو نحو ذلك، فلم يجد والدها الكاهن البوذي غير الشعر عزاء، وهو بالتأكيد عزاء جميل. وفي طفولتي الثانية هذه، أشعر بأنها أجمل مراحل العمر، ولا سيما أني أبرمت مع غراب الأجل مودة عميقة وتفاهما مطلقا وغبطة روحية، وهو سيتولى أعباء رحلتي الأخيرة، دون أن أشعر بأي ضيم أو أسف أو عناء.
الكتب أجمل ما تزودنا به صديقتي فاطمة وتزين بها مسكننا الصغير، وهي مطالبة أن تغطي في الصحافة ما تضم هذه الكتب من أحداث روائية أو ريادات فكرية. ومنذ أسبوعين يحتضن مكتبي الصغير كتابين رائعين: (فن القراءة) لألبرتو مانغويل، و(مهنة القراءة) لبرنار بيڤو؛ يخبرنا الأول أن القراءة نشاط إبداعي يجعلنا إنسانيين بامتياز، ونحن في الجوهر حيوانات قارئة، وفن القراءة بمعناه الواسع هو الذي يميز جنسنا عن الكائنات الأخرى. وقراءة الكتاب في زمنين مختلفين كالسباحة في النهر، أي أننا في كل قراءة نكتشف شيئا مختلفا، ونرتاد عوالم خيالية مدهشة، ونكتسب متعة وفائدة جديدتين، تأكيدا لمقولة الفيلسوف الإغريقي أن الإنسان لا يسبح في النهر مرتين، لأن نهر الزمن دائم الجريان.. والإنسان يتغير كما يتغير الماء وأجواء الفصول…
كتاب (مهنة القراءة) فضاء آخر، وذلك أن بيڤو أمضى خمسة عشر عاما ونصف العام في القراءة، ترويجا للكتب المنشورة حديثا، حيث كان يقدم في برنامجه التلفزيوني كتابا كل أسبوع، يناقش فيه موضوع الكتاب مع كاتبه وناقد، كما يتلقى آراء القراء ويتابع تعليقات الصحافة، تعميما للفائدة وخدمة للكاتب والكتاب. عنوان برنامجه “أبوستروف”، ويستعرض في كل سنة خمسين كتابا، وقد توقف البرنامج بعد أن قدم 723 كتابا، خاض عميقا في موضوعاتها مع المشاركين بالنقد والنقاش، إضافة إلى أنه كان يقدم يوم الجمعة لمحة (أشبه بالإعلان) عن خمسة كتب، والمحصلة 250 كتابا في السنة. ويبدو لي أن هذه الخدمة الثقافية للأدب واللغة تنفرد بها باريس في الغرب كله، لأن فرنسا ترى أن اللغة الإنكليزية هيمنت على العالم، ما دام البيت الأبيض يشكل الشرطي العالمي الداهم بساطوره النووي ينتشر في شوارع القارات كلها.
في مهنة القراءة، يواجه بيڤو طرائف ومفارقات شتى، يقول: إن أداء “بوكوفسكي المخمور في البرنامج تسبب بفضيحة كبيرة، لأن السكر تعتعه فخرج من الحلقة. أما كيسنجر الذي يعيش من مؤلفاته بعد أن غادر وظائفه الرسمية، فقد طلب أجرا أكبر من طاقة ميزانية المحطة، مع أن ضيوف البرنامج يقومون بعملهم بلا مقابل. وقد كان بيڤو مخلصا لعمله فرفض أن يكون هذا الغول الأميركي استثناء، وقرر إلغاء الحوار معه؛ وهذا الموقف المبدئي الحاسم أجبر كيسنجر على الرضوخ لشروط المحاور. وهناك كتّاب لا يحبون الظهور عبر شاشة التلفزة، ولعلهم يعتبرون هذا الجهاز خاصا بنشر الإعلانات التجارية ولا يريدون لكتبهم أن تدخل هذا البازار. ومن الطرائف الواردة في الكتاب، أن “نابوكوف لم يوافق على التصوير إلا أثناء ممارسة هوايته الصيفية: (صيد الفراشات) وقد اشترط أن تكون الأسئلة مكتوبة، وهو سيعد الأجوبة ويقرأها. لكنه لجأ إلى حيلة ذكية فقد اشترط أن يكون جلوسه على مكتب تكون واجهته من الكتب ليخفي نصه المكتوب عن الجمهور، ويضيف قائلا: أنا ماهر جدا في فن التمويه، لن يظن الناس أني أقرأ أجوبتي، بل أن عيني تبحثان في السقف عن الإلهام!
إشارتي السابقة إلى فن القراء ومهنتها لم تكن أكثر من مقدمة أو دعوة للعاملين في مجال الأدب والإعلام لتقديم برنامج ثقافي مشابه يسهم في عرض الكتب وتشجيع القراءة. وقد خطر لي أن أتصل بالدكتور محمد الحوراني رئيس اتحاد الكتاب، لعله يقوم بالاتفاق مع إحدى محطات التلفزة لتقديم برنامج مشابه. والخطة التنفيذية تقضي أن يتفق الصديق العزيز رئيس الاتحاد مع أحد الأدباء العاملين في هيئة الكتاب بوزارة الثقافة أو مع أحد أساتذة كلية الآداب في الجامعة، لأن التعاون والتنسيق بين هذه المنابر الثلاثة سيؤدي إلى فائدة مضاعفة، وعلى دور النشر أن تسهم بتقديم عدد من كتبها الجديدة هدية لمقدم البرنامج والمشاركين فيه، إضافة إلى مكافأة كاتب أفضل تعليق أدبي من المشاهدين الذين قرأوا الكتاب وشاركوا بآرائهم كتابة. والإعلان عن الكتاب الذي سيناقش في الحلقة يجب أن يتم