الكتابة والقراءة:طريقان متوازيان وقد يلتقيان
ثمّة من يقترف الكتابة دون قراءة , كحال الطاهي الذي ينصرف إلى الطبخ دون رغبة في تذوّق أطباق الآخرين , إمّا لثقة مفرطة في النفس ورغبة منه في عدم إفساد ذائقته ـ (صرّح يوما نجم السلّة (جوردان)بأنّه لا يحضر مباراة لا يلعب فيها) ـ وإمّا لجهل راسخ يعلّم التطاول ….ولا يتطاول إلاّ الرعاع والجهلة وضعاف الموهبة.
ثمّة من يمارس الكتابة دون قراءة كحال الحلوانيّ المصاب بداء السكّري ,وثمّة من يركن للقراءة دون حاجة إلى الكتابة وقد عاش من عرف قدره فوقف عنده ,ذلك أنّ الذوّاقة لا يتحوّل إلى صانع أو ناقد بالضّرورة… فكلّما أوغلنا في قراءة الروائع صعبت علينا الكتابة وكبرت في عيوننا و سألنا أنفسنا :ماذا بوسعنا أن نضيف إلى ما تركه الكبار من هؤلاء ..!؟
أمّا الذين فشلوا في الكتابة الابداعيّة وتحوّلوا إلى النقد ظنّا منهم أنّ النبيذ الفاسد يمكن أن يكون خلاّ جيّدا, فقد فاتهم أنّ النص النقدي هو ذاك الذي يناظر الأثر الإبداعي ولا يقاربه وقد يعلو عليه ولا يلاحقه فللعنب وظيفة وللحصرم وظيفة أخرى.
وثمّة فئة –وهي الأغرب ـ تمارس القراءة والكتابة ولا تمارس الحياة فاستحال أفرادها إلى كائنات ورقيّة سوف يأكلها السّوس وتقضمها فئران التاريخ ذات يوم مشمس.
كيف للواحد أن يكتب عن الحبّ دون أن يتيه أو يهان وعن الحرمان دون أن يبكي في سرّه وعن الياسمين دون أن يجرحه شوكه أو يصفعه عطره وعن المدن دون أن يتنفّس بردها ودفئها وعن التسكّع دون أن تهرب الطرقات من تحت قدميه.
كيف للواحد أن يقول:(ها أنا )دون أن يسحق الآخرون (أناه)كلّ صباح !!
كيف للواحد أن يكتب عن الغربة قبل أن تكتبه دموع النّسغ في الأوراق بعد قطع الجذور ..!؟
الكتابة إذن هي فعل الصّداقة مع الحياة بعد خناق دائم وطويل وشرس مع الحياة,إنّها محاولة فاشلة للمصالحة مع الذّات والآخر ولكنّنا ندمن عليها.
إنّها تمارس بالأنوف قبل الأقلام ,والكاتب الحقيقي ّ هو ذاك الذي لم يتقصّد يوما أن يكون كاتبا ,بل اختارته ولم يخترها ويمارسها على مضض كمصير حذّرت منه العرّافات.
الكتابة بترف أو لحاجة تشبه الرقص لأجل تخفيف الوزن أو ممارسة الحبّ في الأفلام الخليعة.
من قال إنّ الكتابة امتياز!؟ّ
لو يعلم بعض المتنطّحين والمتنطّحات والمتعمشقين والمتعمشقات والمتلطّعين والمتلطّعات أنّ الكتابة تقصّر الأعمار وتسبّب التجاعيد وترهق الجفون وتكثر من الأعداء لابتعدوا عنها.
للذين يمارسون الكتابة لغرض الانتقام والكراهية وتصفية الحسابات أودّ أن أذكّرهم بالحادثة التالية:
أراد ابن العميد وهو أحد معاصري المتنبّي أن يألّف رسالة(أي كتابا بلغة ذلك العصر) في مثالب مالىء الدنيا وشاغل الناس رغبة منه ومن بعض المتآمرين في الحطّ من شأن أبي الطيّب وقبل أن يغمس ريشته في مداده جاءه خبر وفاة ابنته البكر,وكانت حادثة قاصمة الظهر, انهالت عليه رسائل التعازي وكان أكثر من ستّين منها تبدأ عبارتها ببيت لم يجدوا أنسب منه يقول:
(طوى الجزيرة جاءني خبر…فجزعت فيه بالآمال للكذب.)…..الخ, وكان للمتنبّي في أروع مراثيه لشقيقة سيف الدولة ,ساعتها أعاد ابن العميد ريشته إلى غمدها وقال في صمت وحيرة يحدّث نفسه :لم يأتني شعر أفصح ممّا قاله هذا الذي هممت بهجائه ,كفّ عن الهراء يا ابن العميد ولا تهج أبا الطيّب بعد اليوم ,فله ترفع الأقلام وتجفّ الصحف.
كذا يكون الاعتراف في أبهج حالاته ,من النبلاء إلى النبلاء ومن الرجال إلى الرجال وكذا تكون الكتابة فعل تطهير ومحبّة فلا عاش من يتآمر على موهبة أو يسكت صهيل قلم جامح.
ورد في أوّل آية من الكتاب الكريم سورة (اقرأ)وليس (اكتب ).
فلنكتب باسم كلّ الذين قرأناه في الأوراق والوجوه والطرقات والأهم من ذلك كلّه ,باسم كلّ الذين لا يقرؤون ولا يكتبون في هذا الوطن العريض من أمّة (اقرأ).