الليبراليّ لخصمه الإسلاميي :(قتلتني قاتلك الله).
الليبراليّ لخصمه الإسلاميي :(قتلتني قاتلك الله). ..حيث دخل الليبراليون صناديق الاقتراع في بلاد الربيع العربي بأصوات مشتّتة وحناجر مبحوحة وبيانات مشوّشة وجماعات مبعثرة ,فخرجوا بهزيمة يمكن تسميتها ب(الأغلبية المستضعفة ) أمام تغوّل الأحزاب الدينيّة التي عرفت كيف ترصّ صفوفها وتعدّل من خطابها وتوهم الفئات الشعبيّة أنها هي التي قامت ب(صلاة الاستسقاء السياسي) فانهمر بفضلها غيث الحرية والكرامة.
مشكلة الليبراليين أنهم ليسوا حزبا ولا تنظيما ولا جبهة ولا ميليشيا ,بل تيّارا مدنيّا يؤمن بالحريات الفردية والجماعية وضرورة الحوار والانفتاح ,لذلك توزّعوا بين مناصرين ومستقلّين ووسطيين ومستنكفين …فنظر إليهم العامّة كطرف بلا موقف حاسم واتهمهم خصومهم الدينيون بالتراخي مع أنظمة الفساد البائدة (إن لم نقل التورّط) والارتباط بالغرب الرأسمالي (إن لم نقل العمالة).
نقطة ضعف الليبراليين الذين انحدرت غالبيتهم من أصول يساريّة أعلنت (توبتها) بعد سقوط جدار برلين , أو عائلات قوميّة راجعت نفسها بعد حرب الخليج أو جماعات تؤمن بالتعايش بين التراث والحداثة كمن يخلط الزيت بالماء .
نقطة ضعف هؤلاء هي تسليمهم باقتصاد السوق الذي يجعل من الثعلب كائنا حرّا في قنّ دجاج غير حرّ.
لا تكاد تلتقي شخصا ليبراليّا إلاّ وقدّم نفسه بعبارة :(نعم , أنا ليبراليّ مع بعض التحفّظات ) ,إنه الخجل من الحاضر والتردّد بين منزلقات اقتصاديّة لم يستطع اقتصاد السوق الإجابة عنها …ومن سجالات دينيّة عقائديّة لم يجرؤ فكره المتسامح معالجتها بالأجوبة المقنعة والحاسمة في مجتمعات تنخرها الأميّة .
حجّة الذي يعزف على أوتار العقيدة ,يبشّر بالجنّة وينذر من النار هي دائما الأقوى والأكثر إقناعا في مجتمع يفترسه اليأس من صلاح البطانة والسلطان ,مجتمع يسحقه الظلم وينخره الفساد وترتع فيه الأميّة …مجتمع يحتاج إلى أيادي إلهيّة تنتشله من القوانين الوضعيّة التي انحرفت عن مسارها.
حجّة المتستّرين تحت عباءة الدين أنّ القوانين التي تنزل من السماء ولا تنبع من الأرض هي عادلة بالضرورة ,ما داموا هم الذين ينطقون باسم العدالة الإلهيّة ,فيكفّرون من أرادوا ويطوّبون من أرادوا.
كيف لك أيها الليبرالي المستضعف أن تناقش أمرا كان محتوما لدى هذه الفئة التي ألبستك لدى العامّة زيّ الشيطان الرجيم وحرّضت عليك السواد الأعظم من أمّة (اقرأ) التي لا تقرأ…؟!.
حرّكوا الغرائز ضدّك ,ألّبوا عليك الدهماء والسوقة والرعاع ,فما نازلت جاهلا إلاّ وغلبك على حدّ قول علي بن أبي طالب.
كيف لك أن تثبت للعامّة أنّك على حقّ دون أن تعتلي منابر العبادة وترتهن بيوت الله وتحلف باسمه على غير صدق..!؟.
قال أحد الفلاسفة :(الحقيقة عذر باهت دائما),لذلك لا ينتصر الأخيار والطيبون إلاّ في الروايات الرومانسيّة.
ليس الأمر انتصارا للفئة الليبراليّة التي أزعم أنّي معها ولست منها ,ذلك أن لا مقرّ ل(حزبنا) ولا مستقرّ لرأينا إلاّ على ضفاف الكرامة و الحريّة ,بل وقوف مع من يستثمر في الموروث لصالح الإنسان وبين من يتاجر فيه خدمة لمصالح ضيّقة يلبسها ثوب المقدّس والقداسة.
فارق كبير بين من يموت لأجل فكرة يعتقد أنها ترضي الله والإنسان وبين (شبه فكرة) يظنّ صاحبها ويوهم الآخرين أنّها جاءت من عند الله الذي يجلّ ويسمو عن السياسة والسياسيين.
لم يأب أصحاب الرأي الحرّ – عبر التاريخ – أن يزايدوا باسم الله والفضيلة أمام شعوبهم في سبيل دخول مستنقع السياسة التي تقبل بالصالح والطالح وتخضع لسوق العرض والطلب …السياسة التي هي مسؤولية الفرد تجاه المجموعة لدى المجتمعات المتقدّمة … ومصالح وامتيازات كثيرة في حظيرة الجماعات المتخلّفة.
يذكّرنا الأمر بحادثة قتل المتنبّي – مالئ الدنيا وشاغل الناس – ,حين جاء في الرواية أنّه همّ بالفرار اتّقاء لشرّ قاتله فجاءه صوت الأخير مذكّرا ببيته الشهير :كيف تهرب وأنت القائل :
(الخيل والليل والبيداء تعرفني * والسيف والرمح والقرطاس والقلم .).
ما كان من أبي الطيب إلاّ أن عاد لقاتله مشرّعا عن صدره ومردّدا في حسرة الذي قتله عهده ومكر به المصطادون في المياه العكرة : (قتلتني قاتلك الله ).
إنها هزيمة المنتصرين التي حفظها تاريخ لا يعترف بالانتصارات السريعة والانفعاليّة والخلّبيّة …بل بوعي تراكميّ تنتجه الثقافة التنويريّة والحرب على الأميّة.
*كلمة في الزحام :
الذين يخاطبون الظلام خاسرون ,لأنّ الله خلق الليل لباسا والنهار معاشا …وتوعّد المنافقين بعذاب عسير.