الهويّة المكسورة
الهويّة المكسورة … عمدت الدوائر المختصّة في الحكومة السورية منذ بضع سنوات إلى تحديث بطاقة الهويّة الشخصيّة وجعلها ممغنطة ورقميّة ,أسوة بباقي الدول التي تكافح التزوير وتعمل على تيسير شؤون مواطنيها في مختلف المعاملات …ولكن…
مشكلة هذه الهويّة الجديدة أنها قابلة للكسر على نصفين أو أكثر ,ولا يمكن جبرها بأيّ شكل من الأشكال ,على عكس الهويّة التقليديّة الأولى, ذات الملمس الطيّع البسيط ,ممّا جعل الدولة لا تتسامح إزاء هذه (الجريمة) فتتشدّد مع من كسرت هويته إلى حدّ الحبس والإيقاف والمساءلة غير المحمودة العواقب.
(إنّي ألزم بيتي ولا أخرج منه إلاّ في الضرورات القصوى خائفا ومتخفّيا منذ اليوم الذي كسرت فيه هويّتي…لقد انكسر ظهري بسبب هذه الحادثة في مثل هذه الظروف التي تعيشها البلاد..) ,هذا ما قاله صديقي السوري حين هاتفته سائلا عن سبب اختفائه.
نعم , لقد صدّقت القصّة حقيقة ومجازا وقدّرت معاناة الذين يعيشون (كسر هوياتهم) ,في السرّ والعلن,عن قصد أو غير قصد …..وتوقّفت كثيرا عند الذين كسرت هوياتهم …فكسرت ظهورهم.
ما معنى الهويّة أوّلا ,من هو حاملها وماذا يعني ذلك ؟
إنه التعبير الورقي الأوّل عمّا أردت قوله دون ورق, إنّه أنت الذي تحمله في جيبك الخلفي كل صباح … وتقول لمن يهمّه الأمر :(ها أنا ذا أقف خلف الحاجز البلاستيكيّ بخرزة على القلب وختم يقطر حبرا وطنيّا فوق الأنف …ها أنا ذا مجرّد رقم وصورة وعنوان يسخر من كل الذين يلاحقونه نحو بيته …ها أنا ذا أمضي في البساطة و الزحام.).
الهويّة لدى الإنسان السوري تعني أكثر من ورقة قابلة للكسر أو الانطواء والتدليس ,إنها أكثر من رقم,أكبر من كلمة ,أعصى على التدليس …. أجلّ من قرار وأصغر من وطن.
انكسرت هوية صديقي السوري (ذي الهويّة المكسورة) لأنه كان مكسورا,وضاعت أحرفها الأولى لأنّ اللغة لم تكن تشي بكلّ السوريين ….لقد كانت لغة منقوصة في عيون الذين ينظرون إلى سوريا العظيمة بعيون ضيّقة.
بعضهم اليوم ,يكسر هوية سوريا و يعلنها هويات كمن يعتقد أنّه يغلب نفسه ,بعضهم يطنّ أنّ من يلقي هويته في اليمّ سوف يظفر بهويّة أكبر وأعمق من البحر…بعضهم يكفر بالهويّة ,بعضهم يؤمن بها …..لكنّ الكثير منهم سوف يعلم أن لا مستقبل دون هويّة.
نعم سيّدي الذي يقف على الحواجز المباحة و المستباحة في طريق طويلة ,شائكة وصعبة ,نعم ,أيها الذي صرت تقتل على الهويّة – قديمة كانت أم جديدة – ,إنّك لا تتفحّص مجرّد وثيقة قادمة من(النفوس) ,إنّك لا تختبر بصمات الأصابع …إنك لا تعاقب هويّة مكسورة …بل مواطنا مكسورا.
الهويّة التي انكسرت يا سيدي كانت صلبة كالحديد …كإرادة السوريين الأشاوس …والهوية القديمة كانت أيضا ليّنة وطريّة …ومفتوحة على كل الاحتمالات .
ماذا جرى لشعب كان يضرب به المثل في الهويّات الطريّة والقاسية على حدّ سواء ,ماذا جرى لمن حقّ عليه المثل في قول علي :(لا تكن قاسيا فتكسر وليّنا فتعصر).
هي ليست هوية مكسورة يا صديقي الذي لازم بيته واحتجّ عن الخروج ,بل هويّة منكسرة تحت وقع ظلم ذوي القربى والآخرين وأبناء السبيل ,هي هويّة ضاعت في الزحام وجيوب الذين يعتقدون بأنّ النقود أهمّ وأبقى ….الجيوب التي تتّسع للأموال قبل بطاقات الهويّات.
هي ليست مجرّد هويّة يا صديقي المعتكف في بيته , بل تاريخ ممّا قاله السومريون والآشوريون والكنعانيون والآراميون والعرب ومن لفّ لفّهم …إنها الهوية التي لا تنكسر, فاخرج يا صديقي مثل نسر لا يدفن جناحيه تحت رأسه ما دام هناك قمّة لم يبلغها بعد.
سلام عليك أيها السوري النبيل….سلام على ما قلته ولم تقله.
*كلمة في الفضاء:
لا يطوي النسر جناحيه ما لم تكن هناك قمّة لم يبلغها بعد….أو ربما هوية لم يبلغها بعد.