اليوم الاخير
” قم ودّع اليوم الأخير” هاتف قادم من المجهول، وتناهى إلى سمع “موسى العسكري”، بطل رواية “اليوم الأخير” لميخائيل نعيمة (1889 ـ 1988) الملقّب ب”ناسك الشخروب”، نسبة إلى البلدة التي استقر وبنى خلوته فيها على سفح جبل صنين اللبناني، وذلك حين عاد من مهجره الأميركي سنة 1932.
لم تكن هذه الجملة التي افتتح بها ميخائيل نعيمة، روايته الأكثر عمقا وتجذرا في الفكر الوجودي سنة 1965 سوى فاتحة للوقوف عند جملة من الأسئلة الوجودية الحارقة فكان كمثلَ رجلٍ يقف أمام منزله الذي يَحترق ” وعليه أن يميّزَ، أمام اللَّهَب المتطاير، بينَ ما كان يَعتبره أساسياً قبل اندلاع النار وبَين ما هو ضروريّ حقّاً، حتى ينجوَ به دون غيره، قبل أن يتحوّل الكلّ إلى رماد التي كَتَبها ” وفق تعبير الكاتب نفسه.
يصور نعيمة في روايته التي تتمحور حول شخصية أستاذ جامعي اختار له اسما ذا مرجعية تنتمي إلى الشيعة الجعفرية (موسى العسكري) يبلغ من العمر 57عاما، يقف خلالها البطل على جملة تحولات في حياته تمتد فترة 24ساعة أي يوما بأكمله، يحدث خلاله تحول دراماتيكي يقلب حياة هذا الأكاديمي رأسا على عقب، ويصحح المفاهيم من حوله عبر شخصيات في محيطه الصغير: هشام، ابنه المعاق، أم زيدان، خادمته البسيطة، البستاني والزوجة، وشخصيات أخرى محدودة العدد، لكنها لا متناهية الدلالة والمفهوم.
24فصلا من الأحداث التي تشي بتأويلات وتأملات، وكأن الساعة الواحدة تختصر قرنا من الزمن، فتنسج لحبكة درامية تنزع نحو التصعيد الداخلي وإثارة الأسئلة التي تنطلق من أفعال قد تبدو عادية ومتوقعة، لكنها تزيح الحجاب عن أسرار وجودية داخل مناخ صوفي يذهب بعيدا نحو فلسفة وجودية شديدة الإثارة والإدهاش.
وصارت المقاطع السردية تتطوّر على إيقاع التأمُّلات والأفكار التي تتوالد، حول الحياة والموت، كلّما انقضت من النهار ساعةٌ نحو المَغيب. وفي نظر الناقد المغربي جعفر لعزيز، فإن هذا التقسيم “آلية فعّالة تُمكّن من تَسريع الأحداث وبناء الشخصيات وتحريك الزمن في ذات الآن، ربما في ترميزٍ إلى جريان نَهر الحياة وعودِهِ نحو ينابيعه الأولى، ثمّ انبجاسه من جديد في دورةٍ أبدية دائمة”.
” قم ودّع اليوم الأخير” نداء سماوي يشبه تلك الإشارات الإلهية التي تحدث للرسل والأنبياء وكبار العارفين بالسر الأكبر، وقد استهل بها نعيمة روايته ليؤسس لجملة وقائع أحاطت بشخصية بطل روايته موسى العسكري، وجعلته يلج فصلا نورانيا يستند إلى الإلهام قبل المعرفة عن طريق العقل.
يبني نعيمة هذا التوجه على لسان الخادمة أم زيدان، في قولها حين اندهش الأستاذ الجامعي من نفاذ بصيرتها ودقة حكمتها “أنا أم زيدان لا أكثر ولا أقل”.
أستاذ الفلسفة موسى العسكري، يحاور العقل وينتصر له طيلة 57عاما، كان يعيش حياة رتيبة قبل مجيء النداء الذي يحثه على توديع اليوم الأخير الممتد من منتصف الليل حتى اليوم التالي.
كان هذا الأكاديمي الذي هجرته زوجته مع عشيقها الشاب نحو بلد أجنبي، وتركته مع ابنه المقعد الغارق في تأمل زنبقة كل صباح، ينظر إلى الحياة على أنها سلسلة وقائع تخضع لقانون السببية وثنائية الفعل وردة الفعل وفق ما تمليه علوم الطبيعة.
كل شيء كان يبدو عاديا ومتوقعا في حياة شخصية أكاديمية لها وجاهتها في مجتمع حديث، إلى أن جاءها الهاتف من الغيب ليربكها ويغرقها في بحر من التساؤلات التي تقوّض القناعات وتعيد النظر في الثوابت والمسلمات.
“قم ودّع اليوم الأخير” فعل أمر يذكّر بما يوحى للأنبياء والرسل، ولكنه مجهول المصدر لدى رجل يؤمن بالعقل، و”لا إمام سوى العقل” وفق تعبير أبي العلاء المعري، لذلك بدا بطل رواية ميخائيل نعيمة، شديد الارتباك وحريصا على التأمل في كل تفصيل يخص محيطه الصغير.
جاءت “الإشارات الإلهية” لتزيد المشهد وضوحا وتجليا في كون المعرفة لا يمكن أن تكون إلا بالقلب، وما العقل إلا مركبة بطيئة السير تقودك إلى امتطاء طائرة نفاثة اسمها الحدس.
وهذا ما وقع لزوجته الشابة التي فرت مع عشيقها في مركبة لتقل الطائرة إلى الخارج، لكن حادث سير في الطريق أودى بحياتها فكانت نهاية طبيعية أو ربما عدالة إلهية انتقمت للزوج المخدوع.
تذهب الأقدار أبعد من ذلك في رواية “اليوم الأخير”، إذ وبينما يغرق ابنه هشام في تأمل الزنبقة ومحاورتها هي ومن حولها من العصافير، يقوم من كرسيه المتحرك ويقف على قدميه في معجزة إلهية تزيد الأستاذ موسى العسكري قناعة أن ما يسيّر الحياة ليس العقل وحده.
البستاني الذي يحفر في حديقة المنزل ويعثر على جرة ذهب، يمكنه موسى العسكري من الاحتفاظ بالكنز إيمانا منه بأن السماء قد كافأت البستاني لوحده، وليس لصاحب الأرض، وذلك في إشارة إلى أن مغامرة الوجود هي انعتاق فردي بحت، ولا يخص الجماعات كما تدعي الأنظمة الاشتراكية.
يمضي “ناسك الشخروب” في غلق الدوائر على نفسها كما لو أنك ي الفصول الأخيرة من رواية بوليسية، ولكن في اتجاه مصائر وجودية ذات منحى صوفي يحتفي بوحدة الوجود، والمعرفة المباشرة التي تنطلق من القلب لتعود إليه، إذ جاء في السرد الروائي ب”اليوم الأخير” ومتابعة لسيرة الأكاديمي موسى العسكري، في خضم أحداث هزت قناعاته العقلانية السابقة ” وبينما هو كذلك، تدخل عليه خادمتُه أم زيدان، وتسأله عن سبب تغيُّر حاله، وفي خضمّ حوارهما يسألها: أمَّ زيدان! أتعرفين ما هو الموت؟ فتردُّ عليه: “الموت هو الموت يا ابني”. وفي هذا الوضْع الوجودي، الواقع على حافة الوجود والعَدم، الموت والحياة، الفَناء والبقاء، يَروي نُعيمة سيرَة هذه الساعات الأربع والعشرين الأخيرة التي هي مَدار الكتاب.
تمرُّ الأحداث على محكّ الموت، ليتّضِح الفرقُ بين الزائف والأصيل في حياة الناس. “فهل المضمون العميق، في الكتاب، مجرد مَوعظة مُقَنَّعَة، كُتبت بأسلوب قصصيٍ لتندُبَ الناس إلى التأمُّل؟” يتساءل الناقد المغربي.
ينتصر نعيمة في “اليوم الأخير” للطبيعة بكل ما تعنيه من صفاء ونقاء روحاني يفضي إليه التأمل والسكينة بعد كل حادثة من شأنها أن تهز الكيان البشري كما حصل مع بطل روايته، فعند عودة نعيمة من نيويورك بعد وفاة جبران خليل جبران، كتب يقول “عُدْتُ وفي أُذنيّ ضجيج مدنيّات لا تُحصى. وفي رأسي براكين من الأفكار، وفي قلبي حنين إلى عزلة أستطيع أنْ أغرق في صمتها وسكونها وجمالها فأطهّرِ أذني من الضجيج، وأفرّج عن رأسي ممّا فيه من البراكين، وأبرّد بعض ما في قلبي من الشوق والحنين”.
رواية “اليوم الأخير” تعتبر عصارة فكر ميخائيل نعيمة الذي تبنى فلسفة وجودية تجمع بين جميع العقائد وتهضمها لتنتج فكرا ينزع نحو وحدة الكون وانصهار الإنسان فيه نحو خلاص يدرك بمفهوم الحب.